للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلم ينصفْ هؤلاءِ أسلافهم ولم يقدرُوهم قدرهم، بل دلّ صنيعهم على اعتقاد أنهم قصّرُوا في تحصيلِ تِلْك الطرق، ولم يفطنوا إلى منهج أولئك المصنِّفين في أنهم ما أخرجوا تلك الطرق للاحتجاج ولا للاعتبار.

وهذا المبحث يحتاج إلى بسطٍ، ليس هذا موضعه، ولعلّ فيما ذكرتُ إشارة إلى ما أردنا منه. ولعلّنا في قسم القواعد، ومناهج الأئمة والمصنفين، نتناوله بشيء من التوسع إن شاء الله تعالى.

والأئمةُ لا يِقفُون عند نقْدِهم لغرائبِ الضعفاء والمجاهيل فحسْبُ، بل كان البارعون منهم ينتخبون الأحاديث الغريبة والروايات المنكرة من أصولِ شيوخ ثقات لهم أو لغيرهم، وحِرْصًا منهم على تمييز تلك الأحاديث، كان يرسمُ كُلٌّ منهم أمام الأحاديث علامةً خاصّةً به ليتميز بها عن علامات أصحابه.

وقد عقد أبو بكر الخطيب في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" بابًا خاصًا بعنوان: "رسم الحافظ العلامة على ما ينتخبه" (١).

ومن الواضح مما هناك أن أكثر النُّقادِ لا ينتخبون من الأصولِ إلا الأحاديث الغريبة والروايات المنكرة، وذلك أنهم يريدون به لفت انتباهِ منْ ينظرُ فيها إلى غرابتها ونكارتها، وهذا الصنيعُ لا يقدر عليه إلا فحولُ النقاد وفرسانُهم.

وقد أورد الخطيب هناك أمثلةً، منها حديث قتيبة بن سعيد عن الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل مرفوعًا، وفيه جمع التقديم في غزوة تبوك. هذا الحديث قد أعلّهُ أئمةُ النقدِ قائلين بأن قتيبة تفرّد به عن الليث بهذا الإسناد، وأن هذا الحديث لا يُعرف عن الليث، ولم يروه عنه أهلُ مصر، ولا هو عند أصحابه، ولا في أصوله المعروفة، مِنْ هؤلاء النقاد ممن صرّحُوا بإعلاله: الإمام


(١) (٢/ ١٥٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>