هذا وقوله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله عز وجل يقول: "وغفرت له ما لا يعلمون" ظاهر في أن شهادتهم إنما تنفع إذا كانت مطابقة لعلمهم؛ لأنه إنما يغفر له ما لا يعلمون، فإن كانوا علموا شرا فكتموه وقالوا: لم نعلم إلا خيرًا أو نحو ذلك، لم ينفعه ذلك، بل يضرهم؛ لأنهم شهدوا زورا.
وبناء النبي -صلى الله عليه وسلم- الحكم على ثناء الناس بقوله:"وجبت" صريح في أن الذين أثنوا كانوا عدولا عنده -صلى الله عليه وسلم-، فبنى على أن شهادتهم مطابقة للواقع في أن الذي أثنوا عليه خيرًا لم يظهر منه للناس إلا خير.
وإذا كان الإنسان بحيث لا يظهر منه لجيرانه الأدنيين ونحوهم من أهل الخبرة إلا الخير العدل، والمُثني عليه منهم بذلك معدل له، فالمثنون على الميت من جيرانه وأهل الخبرة به معدلون له، وقد نص في الحديث على أنه يكفي في ذلك الأربعة ويكفي الثلاثة ويكفي الاثنان، ففي هذا دليل واضح على كفاية الاثنين في التعديل.
ويبقى النظر في الواحد، فقد يقال: قد ثبت في حديث جابر وغيره أنه كان للصحابة -رضي الله عنهم- أن يراجعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين، فإذا قال الثالثة، لم يكن لهم أن يراجعوه بعدها، وشواهد هذا في الأحاديث كثير، فابتداؤه -صلى الله عليه وسلم- بذكر الأربعة يشعر بالنهي عن السؤال عن الواحد؛ وذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- لعله إنما ابتدأ بالأربعة مستشعرًا أنهم سيراجعونه فيسألونه عن الثلاثة، ثم يراجعونه ثانية فيسألونه عن الاثنين، ثم يقفون؛ لما تقرر عندهم من المنع عن المراجعة فوق اثنتين.
وفي هذا دلالة ما على أن ثناء الواحد لا يكفي لبناء الحكم بوجوب الجنة، فأما وجوب الجنة في نفس الأمر فقد ظهر مما تقدم أنها تجب لمن لم يظهر منه إلا الخير وإن لم يُثن عليه أحد، ففائدة الشهادة على هذا إنما هي لحكم من يسمعها ممن لم يخبر حال الميت بمقتضاها؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وجبت".