للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقول: لا يخفى حال هذا الجواب؛ فإنه ليس في الحديث أن الممدوح شهد أو أخبر، ولا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنى على مدح المادح حُكْمًا يحتاج فيه إلى عدالة الممدوح، وليس هناك حاجة لبيان نصاب التعديل.

نعم الأشبه بدقة نظر البخاري: تعالى، ولطف استنباطه، إذ فهم من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للمادح: "قطعت عنق صاحبك" ثناء على الممدوح؛ فإن قطع العنق كناية عن الإهلاك، والمعنى كما قال الغزالي: "إن الآفة على الممدوح أنه لا يأمن أن يُحدث فيه المدح كبرًا أو إعجابًا، أو يتكل على ما شهره به المادح، فيفتر عن العمل؛ لأن الذي يستمر على العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصرًا" ذكره في "الفتح".

فكأن البخاري: فهم أن المدح إنما يقطع عنق من له عنق، والكافر والفاسق مقطوعة أعناقهما، ففي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "قطعت عنق صاحبك" دلالة على أنه -صلى الله عليه وسلم- قضى بأن للممدوح عنقًا يخشى أن يقطعها المادح بمدحه، العنق هي العدالة، فقد تضمن ذلك القضاء بأن الممدوح عدل، وهذا على لطفه لا يكفي للحجة، وفيه بُعْد؟ ذلك أنه ليس في الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعرف الممدوح، حتى يقال: إنه إنما أثبت له سلامة العنق بثناء ذاك المادح.

وأما المسلك الثاني (١): فالأقرب أن تزكية الشاهد شهادة، وأما تزكية المخبر فإن كانت ممن جاوره أو صحبه مدة فالظاهر أنها خبر، وإن كانت ممن تأخر عليه كتعديل الإمام أحمد لبعض التابعين فقد يقال: إنها حكم؛ لأن أئمة هذا الفن في معنى المنصوبين من الشارع أو من جماعة الأمة لبيان أحوال الرواة ورواياتهم، وقد يقال: إنها فتوى؛ لأنها خبر عما أدى إليه النظر والاجتهاد، وهو إن لم يكن حكمًا شرعيا فتبنى عليه أحكام شرعية كما لا يخفى، والأقرب أنها خبر أيضًا.


(١) يعني مسلك النظر في التعديل: أشهادة هو أم خبر، أم شهادة في تعديل الشاهد وخبر في تعديل المخبر؟

<<  <  ج: ص:  >  >>