وبعد أن ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول الآية {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ...}، فلما عكفت على دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد، أو قتادة, أو ابن أبي ليلى، أو يزيد بن رومان، ولم يذكر أحد منهم أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحارث، وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب مختلفة، وأن الذين لهم هوى في تسويىء سمعة مثل الوليد ومن هم أعظم مقامًا من الوليد قد ملئوا الدنيا أخبارًا مريبة ليس لها قيمة علمية. وما دام رواة تلك الأخبار في سبب نزول الآية مجهولين من علماء الجرح والتعديل بعد الرجال الموقوفة هذه الأخبار عليهم، وعلماء الجرح والتعديل لا يعرفون من أمرهم حتى ولا أسماءهم، فمن غير الجائز شرعا وتاريخا الحكم بصحة هذه الأخبار المنقطعة التي لا نسب لها. وهنالك خبران موصولان: أحدهما: عن أم سلمة زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من ثابت مولى أم سلمة. وموسى بن عبيدة ضعفه النسائي وابن المديني وابن عدي وجماعة. وثابت المزعوم أنه مولى أم سلمة ليس له ذكر في كل ما رجعت إليه من كتب العلم، فلم يذكر في "تهذيب التهذيب" ولا في "تقريب التهذيب" ولا في خلاصة "تهذيب الكمال"، بل لم أجده ولا في قفصي الاتهام أعني "ميزان الأعتدال" و"لسان الميزان" وذهبت بلى مجموعة أحاديث أم سلمة في "مسند" الإمام أحمد فقرأتها واحدا واحدا فلم أجد فيها هذا الخبر، بل لم أجد لأم سلمة أي خبر ذكر فيه اسم مولى لها يدعى ثابت، زد على كل هذا أن أم سلمة لم تقل في هذا الخبر -إن صح عنها، ولا سبيل إلى أن يصح عنها- أن الآية نزلت في الوليد، بل قالت - أي: قيل على لسانها: "بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق". والخبر الثاني الموصول رواه الطبري في التفسير عن ابن سعد عن أبيه عن عمه عن أبيه عن أبيه عن ابن عباس. والطبري لم يلق ابن سعد ولم يأخذ عنه؛ لأن ابن سعد لما توفي ببغداد سنة ٢٣٠ كان الطبري طفلا في السادسة من عمره ولم يخرج إلى ذلك الحين من بلده آمل في طبرستان، لا إلى بغداد ولا لغيرها، وابن سعد وإن كان في نفسه من أهل العدالة في الدين والجلالة في العلم، إلا أن هذه السلسلة من سلفه يجهل علماء الجرح والتعديل أسماء أكثرهم فضلا عن أن يعرفوا شيئا من =