من تأمل هذه الأمثلة علم أن الذي يتبادر إلى الأذهان من رواية أولئك الأشخاص أنها عن سماع، مع أن الفرض أن الراوي عنعن، وأن السامع لا يعلم المعاصرة بدليل خارجي فضلًا عن اللقاء؛ أما إذا علمها فإن الأمر يزداد قوة.
(٢) هذه الأمثلة تُعارَض بغيرها، فإذا ذهب شرقي إلى أوربا، ثم عاد فأخبر عن فلان بإنجلترا، أو عن فلان بفرنسا، وعن فلان بألمانيا، فإن الذي يتبادر عدم السماع، وإن علمت المعاصرة.
(١) هذا التبادر لوجود القرائن الصارفة عن الأصل كتباعد البلدان، وضعف الدواعي إلى زيارتها، وزيادة المشقة في ذلك، ووجود البرق والبريد والصحافة والتآليف بكثرة، وغلبة الإرسال بحيث لا تكاد تجد إنسانًا يقول: أخبرني فلان عن فلان، وغير ذلك، ولهذا مثلنا أمثلة بريئة عن القرائن، وإن شئت فتصورها واقعة في زمن التابعين حيث كانت الأقوال -ولاسيما السُّنَّة- إنما تؤخذ من ألسنة الرجال، فلا برق ولا بريد ولا صحافة، بل ولا تأليف.
والناس يومئذ أهل جد وتشمير في الرحيل لطلب العلم، ولاسيما للقاء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكيف إذا كان الراوي والمروي عنه بأحد الحرمين، والناس يومئذ كلهم يزورون الحرمين، وكثير منهم من يحج كل سنة.
فكيف إذا ثبتت زيارة الحرمين بالفعل، أو كان أحد الرجلين ببلدة قد وصلها الآخر، فكيف إذا ما أقاما ببلدة واحدة.
والحاصل: أن الأصل كما قررناه، وأنه قد تقوم قرائن تصرف عنه، وقد تقوم قرائن تؤيده، ولنذكر مثالًا آخر نوضح ذلك الأصل:
كنا في بومباي -مثلًا- فجاء رجل من السند، لم يصل بومباي قبلُ، فمكث في بومباي بضعة أيام، ثم لقينا، فأخذ يخبرنا عن فلان المدرس بمدرسة كذا في بومباي أنه قال كذا، وعن فلان الإمام بمسجد كذا فيها أنه صلى الجمعة بسورة كذا، وعن