وكان ابن سيرين من المتشددين في أن لا يُروى إلا باللفظ، ومع هذا شهد للذين سمع منهم أنهم مع كثرة اختلافهم في اللفظ لم يخطىء أحد منهم المعنى -ولهذا لما ذُكر له أن الحسن والشعبي والنخعي يروون بالمعنى اقتصر على قوله:"إنهم لو حدثوا كما سمعوا كان أفضل" انظر "الكفاية" للخطيب (ص ٢٠٦).
ومن تدبر ما تقدم من حال الصحابة، وأنهم كانوا كلهم يراعون الرواية باللفظ، ومنهم من كان يبالغ في تحري ذلك، وكذا في التابعين وأتباعهم، وأن الحديث الواحد قد يرويه صحابيان أو أكثر، ويرويه عن الصحابي تابعيان فأكثر وهلم جرا، وأن التابعين كتبوا، وأن أتباعهم كتبوا ودونوا، وأن الأئمة اعتبروا حال كل راو في روايته لأحاديثه في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يروي الحديث مرة بما يحيل معناه في روايته له مرة أخرى جرحوه، ثم اعتبروا رواية كل راوٍ برواية الثقات، فإذا وجدوه يخالفهم بما يحيل المعنى جرحوه.
ثم بالغ محققوهم في العناية بالحديث عند التصحيح، فلا يصححون ما عرفوا له علة، نعم قد يذكرون في المتابعات والشواهد ما وقعت فيه مخالفة ما وينبهون عليه.
من تدبر هذا، ولم يُعْمِهِ الهوى، اطمأن قلبُه بوفاء الله تعالى بما تكفل به من حفظ دينه، وبتوفيقه علماء الأمة للقيام بذلك، ولله الحمد .. (١)
• وقال الشيخ المعلمي في "الأنوار" أيضا (ص ٦٣ - ٦٤):
قول أبي رية:"إن ما وعته الذاكرة لا يمكن أن يبقى فيها على أصله".
إن أراد بذلك ألفاظ الأحاديث القولية، فليس كما قال، بل يمكن أن يبقى بعض ذلك، بل قوله: إن "الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة وأهل الفتيا ... لم يكونوا ليرضوا بما رضي به بعضهم ... من رواية الحديث بالمعنى" اعتراف منه بأن ما ثبت عن هؤلاء روايته من الأحاديث القولية قد رووه بلفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجهه الصحيح.
(١) ثم ذكر المعلمي ما حاول أبورية أن يقدم به شواهد على اختلافِ ضارٍّ وقع بسبب الرواية بالمعنى، فأجاب عن البعض، وبين في البعض الآخر أنه لا علاقة له بالرواية بالمعنى.