الجهة الثانية: استقامة الرواية، وهذا يَثبتُ عند المحدث بتتبعه أحاديث الراوي، واعتبارها، وتبين أنها كلها تدل على أن الراوي كان من أهل الصدق والأمانة، وهذا لا يتيسر لأهل عصرنا، لكن إذا كان القادحون في الراوي قد نَصُّوا على ما أنكروه من حديثه، بحيث ظهر أن ما عدا ذلك من حديثه مستقيم، فقد يتيسر لنا أن ننظر في تلك الأحاديث، فإذا تبين أن لها مخارج قوية تدفع التهمة عن الراوي، فقد ثبتت استقامة روايته.
وقد حاولتُ العمل بهذا في بعض الآتين في قسم التراجم، كالحارث بن عمير، والهيثم بن جميل.
فأما ما عدا هذا، فإننا نحتاج إلى الترجيح، فقد يترجح عندنا استقامةُ رواية الرجل باحتجاج البخاري به في "صحيحه"؛ لظهور أن البخاري إنما احتج به بعد أن تتبع أحاديثه، وسبرها، وتبين له استقامتها، وقد علمنا مكانة البخاري، وسعة اطلاعه ونفوذ نظره، وشدة احتياطه في "صحيحه"، وقِسْ على ذلك، وراجع ما تقدم في القواعد السابقة. والله الموفق.
هذا، وقد تعرض ابنُ السبكي في ترجمة أحمد بن صالح من "طبقات الشافعية" لهذه القاعدة، وزاد فيها فقال:
"فنقول مثلًا: لا يُلتفتُ إلى كلام ابنِ أبي ذئب في مالك، وابنِ معين في الشافعي، والنسائيِّ في أحمد بن صالح؛ لأن هؤلاءِ أئمةٌ مشهورون، صار الجارحُ لهم كالآتي بخبرٍ غريبٍ، لو صَحَّ لتوفرتِ الدواعي على نقله، وكان القاطع قائمًا على كذبه ... ومعنا أصلان نستصحبهما إلى أن نتيقن خلافهما: أصلُ عدالة الإمام المجروح ... وأصلُ عدالة الجارح ... فلا نلتف إلى جرحه، ولا نجرحه بجرحه، فاحفظ هذا المكان، فهو من المهمات ... فنحن نقبل قولَ ابن معين ... ولا نقبل قوله في الشافعي، ولو فَسَّرَ، وأَتَى بِأَلفِ إيضاحٍ؛ لقيامِ القاطعِ على أنه غيرُ محُقٍّ بالنسبة إليه".