هذه المعاهدة سارية المفعول أكثر من ستمائة سنة. ...
ويلفت النظر فى هذه المعاهدة اشتراط «عبدالله بن سعد» على
النوبيين أن يحافظوا على المسجد الذى بناه المسلمون فى «دنقلة»،
ويحموا التجار المسلمين، وغيرهم ممن يطرقون بلادهم، وهذا يؤكد
حرص «عبدالله بن سعد» على أن يظل الطريق مفتوحًا خلال مملكة
«مقرة» إلى الجنوب؛ حيث توجد مملكة «علوة» التى يمكن نشر
الإسلام بها عبر التجار والمسافرين من المسلمين.
وأثناء انصراف «عبدالله بن سعد» من «النوبة» تعرض له «البجة» أو
«البجاة»، ويبدو أنه لم يصطدم بهم لهوان شأنهم فى نظره، لأنه لم
يكن لهم ملك يمكن الرجوع إليه، وكانت أوطان هذا الشعب تمتد فى
الصحراء الشرقية بين «النيل» و «البحر الأحمر» من حدود جنوب
«مصر» فى الشمال إلى حدود «الحبشة» فى الجنوب، وقد أغاروا
على صعيد «مصر» سنة (١٠٧هـ = ٧٢٥م) فصالحهم «عبيد الله بن
الحبحاب» والى «مصر»، وكتب لهم عقدًا بذلك.
وعندما أغاروا على «أسوان» بعد ذلك جرَّد لهم الخليفة «المأمون»
عام (٢١٦هـ = ٨٣١ م) جيشًا بقيادة «عبدالله بن الجهم»، وانتهى الأمر
بعقد صلح جديد بينه وبين ملكهم «كنون بن عبدالعزيز»، ومن أهم
شروطه أن تكون بلاد «البجة» من حدود «أسوان» إلى ما بين
«دهلك» و «مصوع» ملكًا للخليفة، وأن يكون «البجة» وملكهم أتباعًا
له، مع بقاء هذا الملك فى منصبه ويتعهدون بعدم منع أى مسلم من
دخول بلادهم بقصد التجارة أو الإقامة أو الحج، وأن يؤدى ملك
«البجة» ما عليه من الخراج.
وهكذا فتحت هذه المعاهدة البابَ أمام الهجرات العربية لاجتياز مملكة
«مقرة» دون الإقامة بها، فى طريقها إلى وسط «السودان النيلى»
أو ما عرف باسم «مملكة علوة» بينما سمحت المعاهدة مع «البجة»
للهجرات العربية بالاستقرار والإقامة فيما بين حدود «مصر» الجنوبية
وحتى «مصوع»، وبهذا أصبح الباب مفتوحًا للإسلام والثقافة العربية