يكن المنصور يقصد أن تجتمع السلطات فى يده، فكل السلطات
السياسية والعسكرية فى قبضة يديه بالفعل، لكنه أراد أن
يصبغ حكمه بالصبغة الشرعية، وأن تكون له رسوم الملك
والخلافة، ويقوم بتأسيس دولة تحل محل دولة بنى أمية، لكن
الظروف لم تكن مهيأة فالناس لاتميل كثيرًا إلى المنصور؛ بسبب
الوسائل الدموية التى لجأ إليها لتصفية خصومه. وقد أظهر
المنصور مقدرة كافية ممتازة فى جميع المناصب التى تولاها
وشهدت البلاد فى زمنه أمنًا واستقرارًا وطمأنينة لم تعرفها
قبله، وفى زمنه لم تعرف البلاد الثورات مقارنًا بغيره، وازدهرت
الصناعة والتجارة والزراعة، وارتقت العلوم والآداب، وامتلأت
خزائن قرطبة بالمال حتى وصلت الإيرادات إلى نحو أربعة ملايين
دينار، بخلاف الموارد من المواريث ومال السبى والغنائم، ولم
يخل عهد المنصور من الإنشاءات العظيمة على الرغم من الغزوات
المستمرة وقد أشرنا إلى بنائه مدينته الزاهرة بقصورها
وحدائقها، وجعلها قصرًا للحكم والإدارة، وقد بنى المنصور
بجانبها منية جميلة ازدانت بالحدائق والقصور أسماها
«العامرية»، وكان يقصدها عندما يريد الاستجمام. كذلك قام
بزيادة المسجد الجامع فى «قرطبة» بعد أن اتسعت المدينة،
وضمت واحدًا وعشرين حيا، الواحد فيها أكبر من أية مدينة
أندلسية، وقد حفر حولها خندقًا بلغ ١٦ ميلاً وزاد سكانها كثيرًا
لا سيما البربر، وضاق المسجد الجامع بهؤلاء السكان فأدخل
المنصور فى سنة (٣٨٧هـ = ٩٩٧م) زيادة عليه من الناحية
الشرقية، بلغت المساحة الأصلية نفسها تقريبًا، وحرص المنصور
على الاشتراك فى هذا المشروع بنفسه، واشتغل فيه أسرى
النصارى، وتم تعويض أصحاب الدور والأماكن التى صودرت لهذا
الغرض، ولا يزال هذا الجناح قائمًا حتى اليوم، ويعرف بمسجد
المنصور، وإن تحولت عقوده الجانبيه إلى هياكل وكنائس.
وبهذه الزيادة بلغت مساحة المسجد الجامع ما يزيد على ستة