العرب الذين كانوا قبل دخولهم الإسلام قليلى الشأن، لا حول لهم
ولا قوة، ولا يأبه بهم أحد ولا يحسب لهم حساب، هم فى سنوات
قليلة ينجحون فى إزالة الإمبراطورية الفارسية كلها، وهى التى
وقفت ندًا للإغريق والرومان نحو ألف سنة، وفى فتح الشام،
و «مصر» وهما أعظم ولايات الدولة البيزنطية وأكثرها غنى فى
الشرق بعد إنزال هزائم قاسية بجيوشها فى «اليرموك»
وغيرها. وسبب حيرة هؤلاء المؤرخين أنهم يربطون عادة بين
الانتصارات والهزائم فى الحروب، وبين أعداد الجيوش المتحاربة
وما معها من عدة وأسلحة، ولما كان المسلمون أقل عددًا
وعتادًا على نحو لا يقارن بما كان عند الفرس والروم، راحوا
يبحثون عن أسباب أخرى غير قضية العدد والأسلحة، وذهبوا
فى ذلك مذاهب شتى. ذهب بعضهم إلى القول بأن المسلمين
واجهوا دولتى الفرس والروم، وهما فى حالة ضعف وانهيار بعد
الحروب الطويلة التى دامت بينهما، وانتصروا عليهما بسهولة
وفى وقت قصير. غير أن هذا التفسير بعيد عن الواقع ومخالف
للحقيقة، فالمعارك التى دارت فى «القادسية» و «نهاوند»
و «اليرموك» لا تؤيد هذا التعليل؛ لأنها كانت معارك كبيرة، ولم
تكن جيوش الفرس والروم فيها ضعيفة، وهى لم تهزم أمام
المسلمين لضعف قوتها المادية من الرجال والأسلحة، ولكن لأن
معنويات أفرادها كانت منحطة إلى أبعد الحدود، فى حين
كانت معنويات المسلمين عالية، ويعرفون الهدف الذى يحاربون
من أجله، وكان الموت أحب إليهم من الحياة. وهذا هو السبب
الرئيسى فى انتصاراتهم الذى نسيه الكتاب الغربيون أو
تناسوه، فمنبع هذه القوة وسبب هذا الانقلاب العظيم الذى لا
يوجد له مثيل فى التاريخ أن العرب أصبحوا بفضل رسالة الإسلام
أصحاب دين ورسالة، فبعثوا بعثًا جديدًا، وخُلقوا من جديد،
وعلموا أن الله قد ابتعثهم ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور،
ومن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها،