الخطوب والمحن، وأعدته لحياة النضال والمغامرة، فقضى بقية عمره
اثنين وثلاثين عامًا فى كفاح مستمر، لاينتهى من معركة إلا ليخوض
أخرى، ولايقمع ثورة إلا تلتها ثورة، ولم تبق بالأندلس ناحية أو مدينة
إلا ثارت عليه، ولاقبيلة إلا نازعته فى الرياسة، فكانت الأندلس طوال
عهده بركانًا يشتعل بنيران الحرب والثورة والمؤامرة، لكنه صمد لتلك
الخطوب جميعًا، واستطاع بما أوتى من حزم وحسن سياسة وبعد
الهمة والجلد والإقدام أن يغالب تلك الأخطار والقوى وأن يقبض على
زمام الأمور بالأندلس بيده القوية.
وقد تصور اليمنيون أن من حقهم ماداموا قد ناصروا «عبدالرحمن» أن
يفعلوا ما يشاءون، فينشروا الفوضى ويستولوا على أموال الناس،
ويغرقوا البلاد فى مستنقع العصبيات القبلية كما كان الحال من قبل،
لكن عبدالرحمن أثبت أنه لايفرق بين شامى أو بلدى، أو بين بربرى
ويمنى، فجميعهم يضمهم وطن واحد، وعليهم أن يخضعوا لسلطان
العاصمة المركزية.
غير أن تلك السياسة لم تعجب اليمنيين، وعدُّوها لونًا من الجحود
والنكران فثاروا عليه، لكنه تمكن من القضاء عليهم فى الجزيرة
الخضراء، وإشبيلية، وطليطلة، وباجة، معتمدًا على حشود البربر
وأهل البلاد وأعوان بنى أمية.
ولعل من أخطر الثورات التى واجهت عبدالرحمن ثورة «العلاء بن
مغيث الحضرمى»، من وجوه باجة ومن ذوى الرئاسة بها، وكان قد
كاتب «أبا جعفر المنصور» الخليفة العباسى، واستصدر منه سجلا
بولاية الأندلس، وجمع حوله جندًا عظيمًا، ورفع العلم الأسود شعار
العباسيين سنة (١٤٦هـ = ٧٦٣م)، فاشتعلت باجة بنيران الثورة،
وتحالفت «شذونة» مع الثائر، فخرج عبدالرحمن من قرطبة ولجأ إلى
الدفاع أولا، فلما ضعف خصمه تحوَّل إلى الهجوم، ونشبت معارك
هزم فيها العلاء وتشتت جنده، وقتل الآلاف بما فيهم العلاء نفسه،
وحمل عبدالرحمن رءوس الزعماء والقادة وبعث بها إلى القيروان،
ووضع رأس العلاء فى سفط ومعه اللواء الأسود، وسجل المنصور