وأما قول أنس - رضي الله عنه -: "رب تال للقرآن والقرآن يلعنه" فليس معناه أن القرآن يلعنه لأجل تلاوته، وكيف وتلاوته عبادة؟ وإنما معناه أنه ربما تكون له مخالفة لبعض أوامر القرآن أو نواهيه من كذب أو ظلم مثلاً فيكون داخلاً في عموم لعنه للظالمين والكاذبين، فخرج هذا الكلام مخرج التقبيح لمخالفته القرآن مع تلاوته بعثاً للتالي على سرعة الاتعاظ بآيات القرآن وتعجيل المتاب، لا مخرخ الأمر بترك التلاوة والإنصراف عنها. هذا هو الذي يتعين حمل كلام هذا الصحابي الجليل عليه بحكم الأدلة المتقدمة.
وثبت في الصحيح قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه". وهذا في المتعبد بالصيام الذي يوقع الزور والعمل به في وقت صيامه، فيكون متلبساً بالعبادة والمخالفة في وقت واحد. ومع هذا فقد قال الشراح في معنى الحديث- والعبارة للقسطلاني-: "وليس المراد الأمر بترك صيامه إذا لم يترك الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور"، فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من باع الخمر فليشقص الخنازير)، أي يذبحها، ولم يأمره بشقصها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر. وكذلك حذَّر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم له أجر صيامه. فمن باب أحرى وأولى أن لا يكون قول أنس - رضي الله عنه - محمولاً على طلب ترك التلاوة من المذنب لأنه غير مباشر لذنبه في حال تلاوته، وإنما المقصود تحذيره من الإستمرار على المخالفة وترغيبه في المبادرة بالتوبة ليكمل له أجر تلاوته بكمال حالته.
هذا حظ العلم في الإستدلال على حاجة المذنبين إلى تلاوة القرآن العظيم، وأما حظ التجربة، فوالله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت- وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب- أعظم إِلَانَةً للقلب،