من يجهل بكاء الخنساء على صخرها؟ فقدضربت العرب بحزنها عليه الأمثال، وشعرها الخالد من أبلغ ما قالته العرب في مرارة اللوعة البالغة، وتحرق العاطفة الشديدة. وقد كانت الخنساء قبل أن تصاب تقول البيتين والثلاثة، فلما أصيبت بفقد أخيها عمر، ثم بفقد أخيها صخر، الذي أنساها ما قبله، اندفعت بعوامل الحزن فأكثرت من الشعر وأجادت.
هذه المرأة التي بلغ بها الحزن على فقد أخوتها في الجاهلية ما بلغ، وانتهى بها الجزع إلى ما انتهى، عادت في إسلامها تقدم أبناءها، أفلاذ كبدها، الأربعة إلى الموت، وتحثهم على خوض غماره، وتحمد الله أن قتلوا كلهم في مشهد واحد، وتصبر محتسبة مصابها لله، مصدقة بوعوده.
أين إخوان من أربعة أبناء؟ وما ذلك الجزع عن ذينك وهذا الصبر عن هؤلاء؟ وما الذي قلب طباع هذه النفس من جزوعة مضطربة إلى مطمئنة راضية؟ هو -والله- الإسلام، الإسلام الصحيح كما جاء به محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ديناً فطرياً، فأثر في فطر معتنقيه من العرب الأميين. وإذا لم يؤثر في أقوام مثل هذا التأثير فلأنهم فهموه فهماً معكوساً، أو لبسوه لبساً مقلوباً. ولا وربك لا تتأثر به فطر معتنقيه في كل عهد إلا إذا تناولوه على فطرته في ذلك العهد كما تناوله سلفهم الأولون.