للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تضبط المسافة, وقوله تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} يرشدنا إلى امتداد العمران مسافة الليالي والأيام وأن الأمن كان ما دار رواقه على هذا العمران. ولا يتم العمران إلا بالأمن ولكن فات القوم أن يحصنوا هذه المدينة الزاخرة بسياج الإيمان والشكر والفضيلة والعدل وكل مدينة لم تحصن بهؤلاء فمصيرها إلى الخراب, والناس من قديم مفتونون بعظمة المظاهر يحسبون أنها خالدة بعظمتها باقية بذاتها, فالقرآن يذكر لنا كثيراً من مصائر الأمم حتى لا نغتر بمظاهرها وحتى نعلم أن سنة الله لا تتخلف في الآخرين كما لم تتخلف في الأولين.

وأما قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فإن المفسرين السطحيين يحملونه على ظاهره وأي عاقل يطلب بعد الأسفار؟

والحقيقة أنهم لم يقولوا هذا إلا بألسنتهم وإنما هو نتيجة أعمالهم, ومن عمل عملاً يفضي إلى نتيجة لازمة فإن العربية تعبر عن تلك النتيجة بأنها قوله وهذا نحو من أنحاء العربية الطريفة.

ولا زال الناس - على عاميتهم - يقولون فيمن عمل عملاً يستحق عليه الضرب أو القتل: أنه يقول اقتلني أو اضربني, وهو لم يقل ذلك وإنما أعماله هي التي تدعوا إلى ذلك، فالمعنى أن أعمالهم هي التي طلبت جزاءها اللازم لها المرتبط بها ارتباط اللازم بالملزوم والدال بالمدلول فكأن ألسنتهم قالت ذلك ويؤيد هذا في القرآن كثير ومنه قوله تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} لأن الجزاء أثر للفعل فهو مرتبط به ولا يقولن قائل: القول يقع مدلوله في القلب حالاً ولا كذلك العمل فقد يتأخر جزاؤه طويلا ً- لأن الجزاء إذا كان محقق الوقوع يصير كأنه حاصل بالفعل وكل عاقل يقطع بأنه إذا وقع الظلم من الظالم فقد استحق عليه الجزاء ولا يلاحظ مسافة ما بين الظلم وجزائه.

<<  <  ج: ص:  >  >>