أنه رسول الله بادر بالاسلام وأمره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- بكتمان أمره حتى لا تؤذيه قريش وبالرجوع إلى قومه ليخبرهم لعلهم يهتدون. وفي هذا دليل على أن من كان في مثل ذلك الحال من خوف وعدم القدرة على العدو يجوز له أن يتكتم ودليل على أن من هداه الله كان حقاً عليه أن يسعى في هداية قومه.
لكن أبا ذر الذي كان متكتماً خائفاً من يوم قدومه إلى مكة إلى ساعة إسلامه أبى بعد إسلامه أن يبقى متكتماً وأصبح لا يخاف قريشاً ولا يبالي بما يلحقه منها من أذى وأقسم أن يعلن إسلامه وسط مجامع قريش وأقره النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على ذلك وفيه دليل على من أراد أن يتحمل الأذى ويعرض نفسه للهلاك في سبيل إعلان كلمة الحق وإظهار قوة الإيمان وإدخال الرعب والغيظ على قلب العدو كان ذلك حسناً من فعله. وبر أبو ذر في قسمه فقصد إلى المسجد حيث نوادي قريش ومجتمع الملأ منهم وصاح بكلمتي الشهادة. {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} في لحظة تبدل أبو ذر من الخائف المتكتم إلى المعلن الذي لا يبالي بالموت، ولقد كادت قريش تقتله لولا أن أنقذه منها العباس بما خوفها به على أموالها من قبيلة غفار ولكن أبا ذر القوي الإيمان الصادق الإسلام أراد أن يعود إلى إرغامهم وإغاظتهم بعد ما ذاق وتحقق من إذايتهم ليعلمهم أنه أقدم على ما كان أقدم عليه عالماً بإذايتهم غير مبال بها فعاد إلى الإعلان وعادوا إلى ضربه وعاد العباس إلى إنقاذه فرجع بعدئذ إلى قومه- وقد استنار قلبه بالإيمان واشتفى من قريش- خير قافل بخير هدية فدعاهم إلى الإسلام فأسلم على يده أخوه وأمه وكثير من قومه (١).
(١) ش: ج ١، م ١١، ص ١٤ - ١٦ محرم ١٣٥٤ه - أفريل ١٩٣٥م.