وأناروا بالعلم عصرهم ومهدوا الطريق ووضعوا الأسس لما جاء بعدهم. فأدُّوا لنوع الإنسان بالعلم والمدنية أعظم خدمة تؤديها له أمة في حالها وماضيها ومستقبلها، وكما نرى الغرب في مدنيته اليوم. ترجم كتب المسلمين فعرف علوم الأمم الخالية التي حفظتها العربية وأدتها بأمانة، وعرف علوم المسلمين ومكتشفاتهم فجاء هو أيضاً بمكتشفاته العجيبة التي هي ثمرة علوم الإنسانية من أيامها الأولى إلى عهده، وثمرة تفكيره ونظره فيها. وقد كانت مكتشفاته أكثر من مكتشفات جميع من تقدمه، كما كانت مكتشفات صدر هذا القرن أكثر من مكتشفات عجز القرن الماضي لتكاثر المعلومات. فإن المكتشفات تضم إلى المعلومات فتكثر المعلومات فيكثر ما يعقبها من المكتشفات على نسبة كثرتها. وهكذا يكون كل قرن ما دام التفكير عمالاً- أكثر معلومات ومكتشفات من الذي قبله.
فإذا قلت معلوماته قلت اكتشافاته. وهذا كما كان النوع الإنساني في أطواره الأولى.
وإذا كثرت معلوماته وأهمل النظر فيها بقي حيث هو جامداً، ثم لا يلبث أن تتلاشى من ذهنه تلك المعلومات المهملة حتى تقل أو تضمحل. لأن المعلومات إذا لم تتعاهد بالنظر زالت من الحافظة شيئاً فشيئاً، وهذا هو طور الجمود الذي يصيب الأمم المتعلمة في أيامها الأخيرة عندما تتوافر الأسباب العمرانية القاضية- بسنة الله- بسقوطها. وإذا لم يصح إدراكه للحقائق أو لنسبها، أو لم يستقم تنظيمه لها كان ما يتوصل إليه بنظره خطأً في خطأٍ وفساداً في فسادٍ. ولا ينشأ عن هذين إلا الضرر في المحسوس والضلال في المعقول. وفي هذين هلاك الفرد والنوع جزئياً وكلياً من قريب أو من بعيد. وهذا هو طور انحطاط الأمم الإنحطاط التام، وذلك عندما يرتفع منها العلم ويفشو الجهل وتنتشر فيها الفوضى بأنواعها فتتخذ رؤوساً جهالاً لأمور دينها