وبهذا تظهر المناسبة الدقيقة بين رب والفلق، فإن ربَّ الناس ومربيهم وسائقهم إلى ما يكمل وجودهم هو الذي تنكشف لعلمه سرائرهم، والفلق نور يكشف للعيان كل المبصرات فتُرَى على حقائقها ومقاديرها، لا يزيغ البصر في شيء منها ولا يطغى، والإنسان مهما يكن عالمًا فقد تخفى عليه حقائق المعقولات فيزيغ فكره ويطغى.
ومناسبة أخرى: وهي أنَّ الشر ظلام، وقد أجرى الله في فطر البشر تصور الشر كالظلام وأجرى على ألسنتهم تشبيه الشر بالظلام، ذلك أن ما يلابس إحساسهم من الأنس بالنور والبشاشة له هو عين ما يلابسه من الأنس والبشاشة للخير، وأن ما يضايقهم من وحشة الظلام وتوقع الهلاك فيه هو عين ما يضايقهم من ذلك في الشر.
هذا كله في الشر على عمومه، ثم خصص تعالى من هذا العموم ثلاثة أنواع من الشر لشدة تعلقها بحياة الإنسان وكثرة عروضها له، ويجيء أكثرها من أخيه الإنسان، ورتبها ترتيبًا بديعًا لا يستغرب في جنب بلاغة القرآن، ودقته في رعاية المراتب وتنسيقها في العرض على الأذهان.
هذه الثلاثة هي: الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد. والغاسق: الليل المظلم، والمراد هنا المصيبة تطرق ليلًا وعلى غرّة. ووقب: دخل في الوقب، وهو النقرة في الشيء. والنفاثات: السواحر ينفثن الريق واللفظ، جمع نفاثة، كثيرة النفث.
والعقد: جمع عقدة، بيان لعادة السواحر المعروفة من عقد الخيوط ونفث الريق عليها.
والجامع بين الثلاثة هو اشتراكها في الخفاء، فإن الغاسق ظلام تخفى فيه الشرور، والنفاثات مبني أمرهن على الإخفاء تخييلًا وإيهامًا، والحسد داء دفين. فالثلاثة كما ترون شرها خفي،