أن فرغ المسلمون من دفن «عمر»، شرع المرشحون الستة فى
التفاوض، وبعد نقاش طويل اقترح عليهم «عبد الرحمن بن عوف»
أن يتنازل عن حقه فى الخلافة. ويتركوا له اختيار الخليفة،
فوافقوا على ذلك، فشرع فى معرفة آرائهم واحدًا بعد واحد
على انفراد، فرأى أن الأغلبية تميل إلى «عثمان»، ثم أخذ
يسأل غيرهم من الصحابة، «فلا يخلو به رجل ذو رأى فيعدل
بعثمان». اطمأن «عبد الرحمن» إلى أن الأغلبية تزكى «عثمان بن
عفان» فأعلن ذلك على ملأ من الصحابة فى مسجد النبى - صلى
الله عليه وسلم -، ولما كان يعلم أن الذى يلى «عثمان» فى
المنزلة عند الصحابة، هو «على بن أبى طالب»، الذى مال إليه
عدد منهم، فإنه رأى أن يوضح له أن الأغلبية مع «عثمان»،
فقال له: «أما بعد ياعلى، فإنى نظرت فى الناس، فلم أرهم
يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا» - كأنه يحذره من
المخالفة- ثم أخذ بيد «عثمان»، فقال: «نبايعك على سنة الله
ورسوله، وسنة الخليفتين بعده»، فبايعه «عبد الرحمن»، وبايعه
المهاجرون والأنصار؛ ولم يتخلف أحد عن بيعته من الصحابة،
وكان ذلك بعد وفاة «عمر» بثلاثة أيام. استقبل «عثمان»
بخلافته أول المحرم سنة ٢٤هـ، وصعد المنبر بعد تمام البيعة،
وخطبهم قائلا -بعد حمد الله والصلاة على رسوله-: «إنكم فى دار
قلعة -أى دار الدنيا - وفى بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما
تقدرون عليه .. ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم
الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، اعتبروا بما مضى، ثم
جدوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفُل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها:
الذين أثاروها وعمروها، ومتعوا بها طويلا، ألم تلفظهم؟ ارموا
الدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة .. ». وأول ما يُلاحظ على
الخطبة الأولى، التى افتتح بها «عثمان» خلافته، خلوها من
الإشارة إلى المنهج الذى سيسير عليه، ولعله اكتفى بما قاله
لعبد الرحمن بن عوف لحظة البيعة، من أنه سيعمل بكتاب الله،