وكما شهد «المستنصر» مجد دولته، شهد أيضًا تقلُّصَ نفوذه، فقد
زالت سلطة الفاطميين فى بلاد «المغرب الأقصى» سنة (٤٧٥هـ)،
واستولى النورمانديون على «صقلية»، وخلع أميرا «مكة»
و «المدينة» طاعتهما - من قبل - فى سنة (٤٦٢هـ)، وانقطع ماء النيل،
وحدث ما عُرِف فى عهده بالشدة العظمى أو المستنصرية، وغلت
الأسعار، وانتشرت المجاعات والأوبئة حتى قيل إنه كان يموت بمصر
كل يوم عشرة آلاف نفس، ووصل الحال بالناس إلى أكل القطط
والكلاب، فلما لم يجدوها بعد ذلك كان بعضهم يحتال على خطف
بعضهم الآخر ليذبحه ويأكله، وبلغت الشدة منتهاها، وباع المستنصر
جميع ممتلكات قصوره، وقام صراع عنيف بين الأتراك والسودانيين،
وظل الجنود فترة طويلة لا يتقاضون فيها رواتبهم، فنهبوا قصور
الخلفاء، واستولوا على ما فى المكتبات ودور العلم من مؤلفات
باعوها بثمن بخس، واتخذوا من جلودها نعالا وأحذية، واستولى
«ناصر الدولة ابن حمدان» زعيم الجند الأتراك على مقاليد الأمور،
وهدد بإزالة الخلافة الفاطمية، بل حذف اسم الخليفة من الخطبة فى
بعض المناطق، ووصلت الحال بالخليفة إلى درجة أنه لم يتمكن من
حماية أمه من دخول السجن، ففرت مع بناتها إلى «بغداد» طلبًا
للحماية، واستمرت هذه الشدة تسع سنوات، حتى جاء «اليازودى»،
فعالج الأمور، وضبط الأسواق وضرب بشدة على أيدى العابثين،
ولكن الوشاة دسُّوا له عند «المستنصر» بأنه على صلة بالسلاجقة
وأنه يراسلهم، فقتله «المستنصر»، وعادت البلاد ثانية إلى ما كانت
عليه، وظلت تنتقل من سيئ إلى أسوأ مدة تسع سنوات تولَّى
الوزارة فيها أربعون وزيرًا، فاستنجد «المستنصر» ببدر الدين
الجمالى حاكم «عكا»، فأتى على الفور، وألقى القبض على
العابثين والعناصر المتنافرة، وضرب بيد من حديد على أيدى
الخارجين على النظام والقانون، وعَمَّر الريف، واهتم بالزراعة،
وحصن مدينة «القاهرة» التى كانت قد خُربت أسوارها من جراء