تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم بلسان واحد فليس الذي يكون الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها ويوجهها إلى غايتها هو هبوطها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد: ولو وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان وشاهدت ما بينهما من اختلاف نظر وتباين قصد وتباعد تفكير، ثم وضعت شامياً وجزائرياً- مثلا- ينطقان باللسان العربي ورأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب في ذلك كله، لو فعلت هذا لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم.
فانظر بعد هذا إلى ما قرره هذا النبي الكريم، رسول الإنسانية ورجل القومية العربية، في الحديث المتقدم فقضى بكلمته تلك على العصبية العنصرية الضيقة المفرقة، فنبه على تساوي البشر في أنهم كلهم مخلوقون لله فربهم واحد وأنهم كلهم كل من عنصر واحد فأبوهم آدم واحد، وذكر بأخوة دين الإسلام دين الأخوة البشرية والتسامح الإنساني، ثم قرر قاعدة عظمى من قواعد العمران والاجتماع في تكوين الأمم. ووضع للأمة العربية قانونا دينيا اجتماعيا طبيعيا لتتسع دائرتها لجميع الأمم التي رشحت لدعوتها إلى الإسلام بلغة الإسلام. وقد كان ذلك من أعظم ما سهل نشر الهداية الإسلامية وتقارب عناصر البشرية وامتزاجها بعضها ببعض حتى كان ثمرة اتحادها وتعاونها ذلك التمدن الإسلامي العربي الذي أنار العالم شرقا وغربا، وكان السبب في نهضة الغرب والأساس لمدنية اليوم. وبذلك أيضا كانت الأمة العربية اليوم تجاوز السبعين مليونا عدا لا تخلو منهم قارة من قارات المعمور.
كوَّن رسول الإنسانية ورجل القومية العريبة أمته هذا التكوين المحكم العظيم ووجهها لتقوم للإسلام والبشرية بذلك العمل الجليل. فلم يكونها لتستولي على الأمم، ولكن لتنقذهم من سلطة المتسولين