بني هذا الكون الدنيوي على أن يقترن فيه الخير بالشر، وأن يتصلا وأن يشتبها وأن يحيطا بالإنسان من جميع جهاته فتكون أعماله الكسبية في الحياة مكتنفة بها دائرة بينهما موصوفة بأحدهما، ولا بد من قدر الله ومن سننه العامة في هذا العالم الإنساني، وحكمته المبينة في وجيه هي ابتلاء خلقه ليجازوا على ما يكون من كسبهم وسلوكهم بعد أن وهبهم العقل والتمييز وأكمل عليهم نعمته بهداية الدين عدلا منه تعالى ورحمة -وحكمة أخرى وهي تمرين هذا الإنسان في حياتيه العلمية والعملية وتدريب فكره على اختيار الأنفع على النافغ والناقغ على الضار، ثم سوق الجوارح إلى العمل على ذلك الترتيب وترويضها عليه.
والإنسان يكتسب القوّة والدربة بتمرّسه على ما يلقاه من الخير والشر بعمله وبفكره، وللفكر الإنساني عمل سابق لأعمال الجوارح المجترحة وسائق لها ومهيىء لما يظهر أنه من بدواتها.
وهذا العمل الفكري تظهر قوته في نواح منها- وهو أهمها- التمييز بين الخير والشر وأدق منه التمييز بين خير الخيرين وشر الشرين. فإن الخير درجات وأنواع، والشر كذلك دركات وأنواع.
والإنسان في هذا الخضم الذي تلاطمت أمواجه، وفي هذا الفضاء الذي تشابهت أفواجه، محتاج إلى معونة إلهية في تمييز الخير من الشر. وقد أمده الله بهذه المعونة من دينه الحق. ومحتاج إلى تأييد إلهي يعصمه من الشر ويقيه من الوقوع فيه عن جهالة أو عمد. وقد هداه الله إلى أسبابه ووسائله بما شرع له من المنبهات عند طروق الغفلة. والمبصرات عند عروض الشبهة والمعوذات المحصنات عند إلمام لمة الشيطان وطواف طائفه. ومن هذه المعوذات عقائد تدفع عن صاحبها الشكوك وهي شر، وحقائق تقي صاحبها الوهم وهو شر. وعبادات تربي مقيمها على الخير وتنهاه عن الفحشاء والمنكر. وأعمال تثبت فاعلها على الحق. وأقوال يلفيها القلب العامر بتقوى الله والخوف من مقامه على الألسنة