قلنا: وقتل شارب الخمر في الرابعة منسوخ، قال الترمذي: وإنما كان هذا في أول الأمر، ثم نسخ بعدُ، هكذا روى محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي ﷺ قال: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه"، قال: ثم أُتي النبي ﷺ بعد ذلك برجل قد شرب الخمر في الرابعة فضربه ولم يقتله. [سيأتي عند الحاكم برقم (٨٣٢٢)]. ثم قال الترمذي: وكذلك روى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن النبي ﷺ نحو هذا، فرُفع القتل وكانت رخصة. [أخرجه أبو داود برقم (٤٤٨٥) ورجاله ثقات]. ثم قال: والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك في القديم والحديث، ومما يقوّي هذا ما روي عن النبي ﷺ من أوجه كثيرة أنه قال: "لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلَّا الله وأني رسول الله إلَّا بإحدى ثلاث: النَّفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه" [متفق عليه]. قلنا: ومما ورد من الآثار يؤيد ذلك ما رواه البخاري (٦٧٨٠) وغيره من حديث عمر بن الخطاب: أنَّ النبيَّ ﷺ جلد رجلًا يقال له: عبد الله في الشراب فأُتي به يومًا فجُلد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي ﷺ: "لا تلعنوه، فوالله - ما علمتُ - إنه يحب الله ورسوله". قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ٢١/ ٤٤٧: فيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرّر منه، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أُتي به أكثر من خمسين مرة. قلنا: وقد حكى الاتفاق على ترك قتل من تكرَّر منه شرب الخمر أكثر من ثلاث مرار: الإمامُ الشافعي في "الأم" ٧/ ٣٦٥ حيث قال: والقتل منسوخ بهذا الحديث [يعني حديث قبيصة بن ذؤيب] وغيره، وهذا مما لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم علمته. ومثله نقل ابن المنذر في "الأوسط" ١٣/ ١٦ عن أهل العلم، فقال: قد كان هذا من سنّة رسول الله ﷺ، ثم أُزيل القتل عن الشارب في المرة الرابعة بالأخبار الثابتة عن نبي الله ﷺ وبإجماع عوام أهل العلم من أهل الحجاز وأهل العراق وأهل الشام، وكل من نحفظ قوله من أهل العلم عليه، إلا من شذَّ ممن لا يُعَدُّ خلافًا. ثم قال: ومن حُجّة من يقول بهذا القول، بأنَّ من المحال أن يقول رسول الله ﷺ: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" ويُحله بخصلة رابعة، ومحال أن يكون قول رسول الله ﷺ منتقضًا، وإن ادعى مدع أن أحد الخبرين قبل الآخر فدم المؤمن محظور باتفاقهم، وغير جائز أن يباح إلا باتفاق مثله.