يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أَنْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يَتَّبِعُهُمْ وَيُطِيعُهُمْ لِلْحَقَّ، وَمَا جَاءُوا بِهِ مِمّنْ يَتَّبِعُهُمْ عَلَى الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصَّةً.
وَمِنْهَا: أَنّ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ هرقل لأبي سفيان: (هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: سِجَالٌ يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ، وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى، قَالَ: كَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ)
وَمِنْهَا: أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ الصّادِقُ مِنَ الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَظْهَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَطَارَ لَهُمُ الصِّيتُ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ سَبَّبَ لِعِبَادِهِ مِحْنَةً مَيَّزَتْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ، فَأَطْلَعَ الْمُنَافِقُونَ رُءُوسَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَتَكَلَّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ، وَظَهَرَتْ مُخَبَّآتُهُمْ، وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا، وَانْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ انْقِسَامًا ظَاهِرًا، وَعَرَفَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ لَهُمْ عَدُوًّا فِي نَفْسِ دُورِهِمْ، وَهُمْ مَعَهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُمْ، فَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ، وَتَحَرَّزُوا مِنْهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: ١٧٩] [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٩] .
أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَمِيزَ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ كَمَا مَيَّزَهُمْ بِالْمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: ١٧٩] الَّذِي يَمِيزُ بِهِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ مُتَمَيِّزُونَ فِي غَيْبِهِ وَعِلْمِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَمِيزَهُمْ تَمْيِيزًا مَشْهُودًا فَيَقَعُ مَعْلُومُهُ الَّذِي هُوَ غَيْبٌ شَهَادَةً. وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: ١٧٩] اسْتِدْرَاكٌ لِمَا نَفَاهُ مِنَ اطِّلَاعِ خَلْقِهِ عَلَى الْغَيْبِ سِوَى الرُّسُلِ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْبِهِ كَمَا قَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: ٢٦] [الْجِنِّ: ٢٧] فَحَظُّكُمْ أَنْتُمْ وَسَعَادَتُكُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute