شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ إبْطَالًا لِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَقَعَ مَا لَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ، وَأَنْ يَشَاءَ مَا لَا يَقَعُ.
[من حكم غزوة أحد]
فَصْلٌ ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حِكْمَةٍ أُخْرَى فِي هَذَا التَّقْدِيرِ هِيَ ابْتِلَاءُ مَا فِي صُدُورِهِمْ، وَهُوَ اخْتِبَارُ مَا فِيهَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقِ، فَالْمُؤْمِنُ لَا يَزْدَادُ بِذَلِكَ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا، وَالْمُنَافِقُ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مَا فِي قَلْبِهِ عَلَى جَوَارِحِهِ وَلِسَانِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى: وَهُوَ تَمْحِيصُ مَا فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ تَخْلِيصُهُ وَتَنْقِيَتُهُ وَتَهْذِيبُهُ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ يُخَالِطُهَا بِغَلَبَاتِ الطَّبَائِعِ، وَمَيْلِ النُّفُوسِ، وَحُكْمِ الْعَادَةِ، وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، وَاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ مَا يُضَادُّ مَا أُودِعَ فِيهَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْبِرِّ وَالتّقْوَى، فَلَوْ تُرِكَتْ فِي عَافِيَةٍ دَائِمَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَمْ تَتَخَلَّصْ مِنْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَلَمْ تَتَمَحَّصْ مِنْهُ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الْعَزِيزِ أَنْ قَيَّضَ لَهَا مِنَ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا مَا يَكُونُ كَالدَّوَاءِ الْكَرِيهِ لِمَنْ عَرَضَ لَهُ دَاءٌ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ طَبِيبُهُ بِإِزَالَتِهِ وَتَنْقِيَتِهِ مِنْ جَسَدِهِ، وَإِلَّا خِيفَ عَلَيْهِ مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْهَلَاكُ، فَكَانَتْ نِعْمَتُهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةِ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ تُعَادِلُ نِعْمَتُهُ عَلَيْهِمْ بِنَصْرِهِمْ وَتَأْيِيدِهِمْ وَظَفَرِهِمْ بِعَدُوِّهِمْ، فَلَهُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةُ التَّامَّةُ فِي هَذَا وَهَذَا.
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ تَوَلِّي مَنْ تَوَلَّى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَنَّهُ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، فَاسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ حَتَّى تَوَلَّوْا، فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ جُنْدًا عَلَيْهِمُ ازْدَادَ بِهَا عَدُوُّهُمْ قُوَّةً، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ جُنْدٌ لِلْعَبْدِ وَجُنْدٌ عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ، فَلِلْعَبْدِ كُلُّ وَقْتٍ سَرِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ تَهْزِمُهُ أَوْ تَنْصُرُهُ، فَهُوَ يَمُدُّ عَدُوَّهُ بِأَعْمَالِهِ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ يُقَاتِلُهُ بِهَا، وَيَبْعَثُ إلَيْهِ سَرِيَّةً تَغْزُوهُ مَعَ عَدُوِّهِ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ يَغْزُو عَدُوَّهُ، فَأَعْمَالُ الْعَبْدِ تَسُوقُهُ قَسْرًا إِلَى مُقْتَضَاهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْعَبْدُ لَا يَشْعُرُ أَوْ يَشْعُرُ وَيَتَعَامَى، فَفِرَارُ الْإِنْسَانِ مِنْ عَدُوِّهِ وَهُوَ يُطِيقُهُ إنَّمَا هُوَ بِجُنْدٍ مِنْ عَمَلِهِ بَعَثَهُ لَهُ الشَّيْطَانُ وَاسْتَزَلَّهُ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute