فِي هَذَا الِاخْتِصَاصِ الَّذِي لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ الْأَبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ الَّذِي طَلَبَتْهُ بِالِاسْتِفْتَاءِ وَالْمُخَاصَمَةِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ، وَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَحْكَامِ، وَإِنَاطَتِهَا بِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ حَتَّى فِطَرِ النِّسَاءِ، وَهَذَا الْوَصْفُ الَّذِي أَدْلَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَجَعَلَتْهُ سَبَبًا لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ قَدْ قَرَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرَهُ، وَلَوْ كَانَ بَاطِلًا أَلْغَاهُ، بَلْ تَرْتِيبُهُ الْحُكْمَ عَقِيبَهُ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِيهِ وَأَنَّهُ سَبَبُهُ.
وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، فَإِنَّ الْأَبَ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ حُضُورٌ وَلَا مُخَاصَمَةٌ، وَلَا دِلَالَةٌ فِيهِ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَاضِرًا، فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْمَرْأَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ مُسْتَفْتِيَةً، أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُقْتَضَى مَسْأَلَتِهَا، وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَى الزَّوْجِ إِنَّهُ طَلَّقَهَا حَتَّى يُحْكَمَ لَهَا بِالْوَلَدِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا.
[فصل الْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مِنَ الْأَبِ]
وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا افْتَرَقَ الْأَبَوَانِ وَبَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْأَبِ، مَا لَمْ يَقُمْ بِالْأُمِّ مَا يَمْنَعُ تَقْدِيمَهَا، أَوْ بِالْوَلَدِ وَصْفٌ يَقْتَضِي تَخْيِيرَهُ، وَهَذَا مَا لَا يُعْرَفُ فِيهِ نِزَاعٌ، وَقَدْ قَضَى بِهِ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ.
فَلَمَّا وَلِيَ عمر قَضَى بِمِثْلِهِ، فَرَوَى مالك فِي " الْمُوَطَّأِ "، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: (كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عاصم بن عمر، ثُمَّ إِنَّ عمر فَارَقَهَا، فَجَاءَ عمر قُبَاءَ، فَوَجَدَ ابْنَهُ عاصما يَلْعَبُ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الدَّابَّةِ، فَأَدْرَكَتْهُ جَدَّةُ الْغُلَامِ، فَنَازَعَتْهُ إِيَّاهُ حَتَّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ عمر: ابْنِي، وَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: ابْنِي. فَقَالَ أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، فَمَا رَاجَعَهُ عمر الْكَلَامَ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute