قَالُوا: وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا يُضْعِفُ رَغْبَةَ الْآخَرِ فِيهِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَصِيَانَتِهِ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْآخَرِ لَمْ يَبْقَ أَحَدُهُمَا تَامَّ الرّغْبَةِ فِي حِفْظِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ فَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الصَّبِيِّ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ تَخْيِيرَهُ. قُلْنَا: صَدَقْتُمْ لَكِنْ عَارَضَهُ كَوْنُ الْقُلُوبِ مَجْبُولَةً عَلَى حُبِّ الْبَنِينَ، وَاخْتِيَارِهِمْ عَلَى الْبَنَاتِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ نَقْصُ الرَّغْبَةِ، وَنَقْصُ الْأُنُوثَةِ، وَكَرَاهَةُ الْبَنَاتِ فِي الْغَالِبِ - ضَاعَتِ الطِّفْلَةُ، وَصَارَتْ إِلَى فَسَادٍ يَعْسُرُ تَلَافِيهِ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهَذَا، وَالْفِقْهُ تَنْزِيلُ الْمَشْرُوعِ عَلَى الْوَاقِعِ، وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ الْبِنْتَ تَحْتَاجُ مِنَ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ؛ وَلِهَذَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْإِنَاثِ مِنَ السِّتْرِ وَالْخَفَرِ مَا لَمْ يُشْرَعْ مِثْلُهُ لِلذُّكُورِ فِي اللِّبَاسِ وَإِرْخَاءِ الذَّيْلِ شِبْرًا أَوْ أَكْثَرَ، وَجَمْعِ نَفْسِهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ التَّجَافِي، وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلَا تَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ، وَلَا تَتَجَرَّدُ فِي الْإِحْرَامِ عَنِ الْمَخِيطِ، وَلَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا، وَلَا تُسَافِرُ وَحْدَهَا، هَذَا كُلُّهُ مَعَ كِبَرِهَا وَمَعْرِفَتِهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ فِي سِنِّ الصِّغَرِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ الِانْخِدَاعُ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرَدُّدَهَا بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مِمَّا يَعُودُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْإِبْطَالِ، أَوْ يُخِلُّ بِهِ، أَوْ يُنْقِصُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ الْأَصْلَحُ لَهَا أَنْ تُجْعَلَ عِنْدَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، فَتَخْيِيرُهَا لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فَيَلْحَقُ بِهِ.
[اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِمُقَامِ الْبِنْتِ عِنْدَهُ]
ثُمَّ هَاهُنَا حَصَلَ الِاجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِمُقَامِهَا عِنْدَهُ وَأَيُّهُمَا أَصْلَحُ لَهَا، فمالك وأبو حنيفة وأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَيَّنُوا الْأُمَّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ دَلِيلًا، وأحمد رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَاخْتِيَارُ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ عَيَّنُوا الْأَبَ.
قَالَ مَنْ رَجَّحَ الْأُمَّ: قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الْأَبَ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَعَاشِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute