بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ يَسْقِي الْعَلِيلَ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَيَقْطَعُ مِنْهُ الْعُرُوقَ الْمُؤْلِمَةَ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَدْوَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الْأَدْوَاءُ حَتَّى يَكُونَ فِيهَا هَلَاكُهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ أَوْلِيَائِهِ، وَالشُّهَدَاءُ هُمْ خَوَاصُّهُ وَالْمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الصِّدِّيقِيَّةِ إلَّا الشَّهَادَةُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ عِبَادِهِ شُهَدَاءَ تُرَاقُ دِمَاؤُهُمْ فِي مَحَبَّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَيُؤْثِرُونَ رِضَاهُ وَمَحَابَّهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَيْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إلَّا بِتَقْدِيرِ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهَا مِنْ تَسْلِيطِ الْعَدُوِّ.
وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ وَيَمْحَقَهُمْ قَيَّضَ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا هَلَاكَهُمْ وَمَحْقَهُمْ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ كُفْرِهِمْ بَغْيُهُمْ وَطُغْيَانُهُمْ، وَمُبَالَغَتُهُمْ فِي أَذَى أَوْلِيَائِهِ، وَمُحَارَبَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ، فَيَتَمَحَّصُ بِذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، وَيَزْدَادُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ مِنْ أَسْبَابِ مَحْقِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: ١٣٩ - ١٤١] [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٩، ١٤٠] ، فَجَمَعَ لَهُمْ فِي هَذَا الْخِطَابِ بَيْنَ تَشْجِيعِهِمْ وَتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِحْيَاءِ عَزَائِمِهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وَبَيْنَ حُسْنِ التَّسْلِيَةِ، وَذِكْرِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ إدَالَةَ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: ١٤٠] [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٠] ، فَقَدِ اسْتَوَيْتُمْ فِي الْقَرْحِ وَالْأَلَمِ، وَتَبَايَنْتُمْ فِي الرَّجَاءِ وَالثَّوَابِ، كَمَا قَالَ: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: ١٠٤] [النّسَاءِ: ١٠٤] ، فَمَا بَالُكُمْ تَهِنُونَ وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ الْقَرْحِ وَالْأَلَمِ، فَقَدْ أَصَابَهُمْ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَأَنْتُمْ أُصِبْتُمْ فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِي.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُدَاوِلُ أَيَّامَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَرَضٌ حَاضِرٌ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute