وَحُشِرَ إِلَى بَابِ دَارِهِ رِجَالٌ كَثِيرُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، مِنْهُمُ الْمُظْهِرُ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَمِنْهُمُ الشَّامِتُ الْمُغْرِي، وَمِنْهُمْ مَنْ بِهِ مِثْلُ الْمَوْتِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْبَلَاءِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ رَجَزَ العباس وَتَجَلُّدَهُ، طَابَتْ نَفُوسُهُمْ، وَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ قَدْ أَتَاهُ مَا لَمْ يَأْتِهِمْ، ثُمَّ أَرْسَلَ العباس غُلَامًا لَهُ إِلَى الحجاج وَقَالَ لَهُ: اخْلُ بِهِ وَقُلْ لَهُ: وَيْلَكَ مَا جِئْتَ بِهِ وَمَا تَقُولُ؟ فَالَّذِي وَعَدَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتَ بِهِ. فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْغُلَامُ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ عَلَى أبي الفضل السلام، وَقُلْ لَهُ: فَلْيَخْلُ بِي فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ حَتَّى آتِيَهُ؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْعَبْدُ بَابَ الدَّارِ قَالَ: أَبْشِرْ يَا أبا الفضل. فَوَثَبَ العباس فَرَحًا كَأَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ بَلَاءٌ قَطُّ حَتَّى جَاءَهُ وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الحجاج فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْنِي. قَالَ: يَقُولُ لَكَ الحجاج: اخْلُ بِهِ فِي بَعْضِ بُيُوتِكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ ظُهْرًا. فَلَمَّا جَاءَهُ الحجاج وَخَلَا بِهِ أَخَذَ عَلَيْهِ لَتَكْتُمَنَّ خَبَرِي، فَوَافَقَهُ عباس عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الحجاج: جِئْتُ وَقَدِ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اصْطَفَى صفية بنت حيي لِنَفْسِهِ وَأَعْرَسَ بِهَا، وَلَكِنْ جِئْتُ لِمَالِي أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَهُ وَأَذْهَبَ بِهِ، وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُولَ، فَأَذِنَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا شِئْتُ، فَأَخْفِ عَلَيَّ ثَلَاثًا ثُمَّ اذْكُرْ مَا شِئْتَ.
قَالَ: فَجَمَعَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ مَتَاعَهُ، ثُمَّ انْشَمَرَ رَاجِعًا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَتَى العباس امْرَأَةَ الحجاج فَقَالَ: مَا فَعَلَ زَوْجُكِ؟ قَالَتْ: ذَهَبَ، وَقَالَتْ: لَا يَحْزُنْكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَكَ. فَقَالَ: أَجَلْ، لَا يَحْزُنُنِي اللَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَّا مَا أُحِبُّ، فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ خَيْبَرَ وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفية لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لَكِ فِي زَوْجِكِ حَاجَةٌ فَالْحَقِي بِهِ. قَالَتْ: أَظُنُّكَ وَاللَّهِ صَادِقًا. قَالَ: فَإِنِّي وَاللَّهِ صَادِقٌ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا أَقُولُ لَكِ. قَالَتْ: فَمَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: الَّذِي أَخْبَرَكِ بِمَا أَخْبَرَكِ. ثُمَّ ذَهَبَ حَتَى أَتَى مَجَالِسَ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ التَّجَلُّدُ يَا أبا الفضل، وَلَا يُصِيبُكَ إِلَّا خَيْرٌ. قَالَ: أَجَلْ، لَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَخْبَرَنِي الحجاج بِكَذَا وَكَذَا، وَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أَكْتُمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute