عَلَى رَأْسِهِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: ٦٧] [الْمَائِدَةِ: ٦٧] .
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ، وَلَا رُسُوخَ فِي الْعِلْمِ يَسْتَشْكِلُ هَذَا، وَيَتَكَايَسُ فِي الْجَوَابِ تَارَةً بِأَنَّ هَذَا فَعَلَهُ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ، وَتَارَةً بِأَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَوَقَعَتْ فِي مِصْرَ مَسْأَلَةٌ سَأَلَ عَنْهَا بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ، فِي " تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَعْدَ أَنْ أَهْدَتْ لَهُ الْيَهُودِيَّةُ الشَّاةَ الْمَسْمُومَةَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا قُدِّمَ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ مَنْ قَدَّمَهُ.
قَالُوا: وَفِي هَذَا أُسْوَةٌ لِلْمُلُوكِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: ٦٧] فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ الْعِصْمَةَ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِبَشَرٍ إِلَيْهِ.
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بَعْدَهَا. وَلَوْ تَأَمَّلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ ضَمَانَ اللَّهِ لَهُ الْعِصْمَةَ لَا يُنَافِي تَعَاطِيَهُ لِأَسْبَابِهَا، لَأَغْنَاهُمْ عَنْ هَذَا التَّكَلُّفِ، فَإِنَّ هَذَا الضَّمَانَ لَهُ مِنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُنَاقِضُ احْتِرَاسَهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يُنَافِيهِ، كَمَا أَنَّ إِخْبَارَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ بِأَنَّهُ يُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَيُعْلِيهِ لَا يُنَاقِضُ أَمْرَهُ بِالْقِتَالِ وَإِعْدَادِ الْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ، وَالْأَخْذِ بِالْجِدِّ وَالْحَذَرِ وَالِاحْتِرَاسِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَمُحَارَبَتِهِ بِأَنْوَاعِ الْحَرْبِ وَالتَّوْرِيَةِ، فَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَةَ وَرَّى بِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ عَاقِبَةِ حَالِهِ وَمَآلِهِ بِمَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مُفْضِيَةً إِلَى ذَلِكَ مُقْتَضِيَةً لَهُ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ بِرَبِّهِ، وَأَتْبَعُ لِأَمْرِهِ مِنْ أَنْ يُعَطِّلَ الْأَسْبَابَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ بِحِكْمَتِهِ مُوجِبَةً لِمَا وَعَدَهُ بِهِ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ إِظْهَارِ دِينِهِ وَغَلَبَتِهِ لِعَدُوِّهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ضَمِنَ لَهُ حَيَاتَهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَاتِهِ، وَيُظْهِرَ دِينَهُ، وَهُوَ يَتَعَاطَى أَسْبَابَ الْحَيَاةِ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ، وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى آلَ ذَلِكَ بِبَعْضِهِمْ إِلَى أَنْ تَرَكَ الدُّعَاءِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ نَالَهُ، وَلَا بُدَّ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَنَلْهُ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الِاشْتِغَالِ بِالدُّعَاءِ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute