عَنْ بَدَنِهِ الرُّطُوبَاتِ الْفَضْلِيَّةِ، وَيُقَلِّلَ الْغِذَاءَ وَيَمِيلَ إِلَى التَّدْبِيرِ الْمُجَفِّفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا الرِّيَاضَةَ وَالْحَمَّامَ، فَإِنَّهُمَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُحْذَرَا؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ فَضْلٍ رَدِيءٍ كَامِنٍ فِيهِ، فَتُثِيرُهُ الرِّيَاضَةُ وَالْحَمَّامُ، وَيَخْلِطَانِهِ بِالْكِيمُوسِ الْجَيِّدِ، وَذَلِكَ يَجْلِبُ عِلَّةً عَظِيمَةً بَلْ يَجِبُ عِنْدَ وُقُوعِ الطَّاعُونِ السُّكُونُ وَالدَّعَةُ، وَتَسْكِينُ هَيَجَانِ الْأَخْلَاطِ، وَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ وَالسَّفَرُ مِنْهَا إِلَّا بِحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ، وَهِيَ مُضِرَّةٌ جِدًّا. هَذَا كَلَامُ أَفْضَلِ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَظَهَرَ الْمَعْنَى الطِّبِّيُّ مِنَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَمَا فِيهِ مِنْ عِلَاجِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَصَلَاحِهِمَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» ) ، مَا يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ وَلَا يَحْبِسُ مُسَافِرًا عَنْ سَفَرِهِ؟ قِيلَ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ طَبِيبٌ وَلَا غَيْرُهُ: إِنَّ النَّاسَ يَتْرُكُونَ حَرَكَاتِهِمْ عِنْدَ الطَّوَاعِينِ وَيَصِيرُونَ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَادَاتِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي فِيهِ التَّقَلُّلُ مِنَ الْحَرَكَةِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، وَالْفَارُّ مِنْهُ لَا مُوجِبَ لِحَرَكَتِهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْفِرَارِ مِنْهُ، وَدَعَتُهُ وَسُكُونُهُ أَنْفَعُ لِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ وَأَقْرَبُ إِلَى تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِسْلَامِهِ لِقَضَائِهِ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْحَرَكَةِ كَالصُّنَّاعِ وَالْأُجَرَاءِ وَالْمُسَافِرِينَ وَالْبُرُدِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يُقَالُ لَهُمُ: اتْرُكُوا حَرَكَاتِكُمْ جُمْلَةً، وَإِنْ أُمِرُوا أَنْ يَتْرُكُوا مِنْهَا مَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَيْهِ كَحَرَكَةِ الْمُسَافِرِ فَارًّا مِنْهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي الْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي قَدْ وَقَعَ بِهَا عِدَّةُ حِكَمٍ:
أَحَدُهَا: تَجَنُّبُ الْأَسْبَابِ الْمُؤْذِيَةِ وَالْبُعْدُ مِنْهَا.
الثَّانِي: الْأَخْذُ بِالْعَافِيَةِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.
الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَسْتَنْشِقُوا الْهَوَاءَ الَّذِي قَدْ عَفِنَ وَفَسَدَ فَيَمْرَضُونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute