للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا يَرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى الْجَوِّ بُخَارَانِ، أَحَدُهُمَا: حَارٌّ يَابِسٌ، وَالْآخَرُ حَارٌّ رَطْبٌ، فَيَنْعَقِدَانِ سَحَابًا مُتَرَاكِمًا، وَيَمْنَعَانِ أَبْصَارَنَا مِنْ إِدْرَاكِ السَّمَاءِ، فَكَذَلِكَ يَرْتَفِعُ مِنْ قَعْرِ الْمَعِدَةِ إِلَى مُنْتَهَاهَا مِثْلُ ذَلِكَ، فَيَمْنَعَانِ النَّظَرَ، وَيَتَوَلَّدُ عَنْهُمَا عِلَلٌ شَتَّى، فَإِنْ قَوِيَتِ الطَّبِيعَةُ عَلَى ذَلِكَ وَدَفَعَتْهُ إِلَى الْخَيَاشِيمِ، أَحْدَثَ الزُّكَامَ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ إِلَى اللَّهَاةِ وَالْمَنْخِرَيْنِ أَحْدَثَ الْخُنَاقَ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ إِلَى الْجَنْبِ، أَحْدَثَ الشَّوْصَةَ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ إِلَى الصَّدْرِ أَحْدَثَ النَّزْلَةَ، وَإِنِ انْحَدَرَ إِلَى الْقَلْبِ أَحْدَثَ الْخَبْطَةَ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ إِلَى الْعَيْنِ أَحْدَثَ رَمَدًا، وَإِنِ انْحَدَرَ إِلَى الْجَوْفِ أَحْدَثَ السَّيَلَانَ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ إِلَى مَنَازِلِ الدِّمَاغِ أَحْدَثَ النِّسْيَانَ، وَإِنْ تَرَطَّبَتْ أَوْعِيَةُ الدِّمَاغِ مِنْهُ وَامْتَلَأَتْ بِهِ عُرُوقُهُ أَحْدَثَ النَّوْمَ الشَّدِيدَ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّوْمُ رَطْبًا، وَالسَّهَرُ يَابِسًا. وَإِنْ طَلَبَ الْبُخَارُ النُّفُوذَ مِنَ الرَّأْسِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَعْقَبَهُ الصُّدَاعُ وَالسَّهَرُ، وَإِنْ مَالَ الْبُخَارُ إِلَى أَحَدِ شِقَّيِ الرَّأْسِ، أَعْقَبَهُ الشَّقِيقَةُ، وَإِنْ مَلَكَ قِمَّةَ الرَّأْسِ وَوَسَطَ الْهَامَةِ، أَعْقَبَهُ دَاءُ الْبَيْضَةِ، وَإِنْ بَرُدَ مِنْهُ حِجَابُ الدِّمَاغِ، أَوْ سَخُنَ أَوْ تَرَطَّبَ وَهَاجَتْ مِنْهُ أَرْيَاحٌ، أَحْدَثَ الْعُطَاسَ، وَإِنْ أَهَاجَ الرُّطُوبَةَ الْبَلْغَمِيَّةَ فِيهِ حَتَّى غَلَبَ الْحَارُّ الْغَرِيزِيُّ، أَحْدَثَ الْإِغْمَاءَ وَالسُّكَاتَ، وَإِنْ أَهَاجَ الْمِرَّةَ السَّوْدَاءَ حَتَّى أَظْلَمَ هَوَاءُ الدِّمَاغِ، أَحْدَثَ الْوَسْوَاسَ، وَإِنْ فَاضَ ذَلِكَ إِلَى مَجَارِي الْعَصَبِ أَحْدَثَ الصَّرَعَ الطَّبِيعِيَّ، وَإِنْ تَرَطَّبَتْ مَجَامِعُ عَصَبِ الرَّأْسِ وَفَاضَ ذَلِكَ فِي مَجَارِيهِ أَعْقَبَهُ الْفَالِجُ، وَإِنْ كَانَ الْبُخَارُ مِنْ مِرَّةٍ صَفْرَاءَ مُلْتَهِبَةٍ مَحْمِيَّةٍ لِلدِّمَاغِ، أَحْدَثَ الْبِرْسَامَ، فَإِنْ شَرِكَهُ الصَّدْرُ فِي ذَلِكَ كَانَ سِرْسَامًا، فَافْهَمْ هَذَا الْفَصْلَ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَخْلَاطَ الْبَدَنِ وَالرَّأْسِ تَكُونُ مُتَحَرِّكَةً هَائِجَةً فِي حَالِ الرَّمَدِ، وَالْجِمَاعُ مِمَّا يَزِيدُ حَرَكَتَهَا وَثَوَرَانَهَا، فَإِنَّهُ حَرَكَةٌ كُلِّيَّةٌ لِلْبَدَنِ وَالرُّوحِ وَالطَّبِيعَةِ. فَأَمَّا الْبَدَنُ فَيَسْخُنُ بِالْحَرَكَةِ لَا مَحَالَةَ، وَالنَّفْسُ تَشْتَدُّ حَرَكَتُهَا طَلَبًا لِلَّذَّةِ وَاسْتِكْمَالِهَا،

<<  <  ج: ص:  >  >>