يَرْحَمُونَ إِنِ اسْتُرْحِمُوا، وَلَا يَعْطِفُونَ إِنِ اسْتُعْطِفُوا، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْمَالُ الرَّعَايَا ظَهَرَتْ فِي صُوَرِ وُلَاتِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَعْمَالَهُمْ فِي قَوَالِبَ وَصُوَرٍ تُنَاسِبُهَا، فَتَارَةً بِقَحْطٍ وَجَدْبٍ، وَتَارَةً بِعَدُوٍّ، وَتَارَةً بِوُلَاةٍ جَائِرِينَ، وَتَارَةً بِأَمْرَاضٍ عَامَّةٍ، وَتَارَةً بِهُمُومٍ وَآلَامٍ وَغُمُومٍ تُحْضِرُهَا نُفُوسُهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا، وَتَارَةً بِمَنْعِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَنْهُمْ، وَتَارَةً بِتَسْلِيطِ الشَّيَاطِينِ عَلَيْهِمْ تَؤُزُّهُمْ إِلَى أَسْبَابِ الْعَذَابِ أَزًّا لِتَحِقَّ عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةُ، وَلِيَصِيرَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ، وَالْعَاقِلُ يُسَيِّرُ بَصِيرَتَهُ بَيْنَ أَقْطَارِ الْعَالَمِ فَيُشَاهِدُهُ، وَيَنْظُرُ مَوَاقِعَ عَدْلِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الرُّسُلَ وَأَتْبَاعَهُمْ خَاصَّةً عَلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ، وَسَائِرُ الْخَلْقِ عَلَى سَبِيلِ الْهَلَاكِ سَائِرُونَ، وَإِلَى دَارِ الْبَوَارِ صَائِرُونَ، وَاللُّهُ بَالِغٌ أَمْرَهُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا رَادَّ لِأَمْرِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَمْأَةِ: ( «وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» ) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَاءَهَا يُخْلَطُ فِي الْأَدْوِيَةِ الَّتِي يُعَالَجُ بِهَا الْعَيْنُ، لَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ وَحْدَهُ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بَحْتًا بَعْدَ شَيِّهَا، وَاسْتِقْطَارِ مَائِهَا، لِأَنَّ النَّارَ تُلَطِّفُهُ وَتُنْضِجُهُ، وَتُذِيبُ فَضَلَاتِهِ وَرُطُوبَتَهُ الْمُؤْذِيَةَ، وَتُبْقِي الْمَنَافِعَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَائِهَا الْمَاءُ الَّذِي يَحْدُثُ بِهِ مِنَ الْمَطَرِ، وَهُوَ أَوَّلُ قَطْرٍ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ إِضَافَةَ اقْتِرَانٍ لَا إِضَافَةَ جُزْءٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَهُوَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ وَأَضْعَفُهَا.
وَقِيلَ: إِنِ اسْتُعْمِلَ مَاؤُهَا لِتَبْرِيدِ مَا فِي الْعَيْنِ، فَمَاؤُهَا مُجَرَّدًا شِفَاءٌ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَمُرَكَّبٌ مَعَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ الغافقي: مَاءُ الْكَمْأَةِ أَصْلَحُ الْأَدْوِيَةِ لِلْعَيْنِ إِذَا عُجِنَ بِهِ الْإِثْمِدُ وَاكْتُحِلَ بِهِ، وَيُقَوِّي أَجْفَانَهَا، وَيَزِيدُ الرُّوحَ الْبَاصِرَةَ قُوَّةً وَحِدَّةً، وَيَدْفَعُ عَنْهَا نُزُولَ النَّوَازِلِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute