صَحَّ هَذَا الْقِيَاسُ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ التَّكْفِيرِ عَلَى الْحِنْثِ قِيَاسًا عَلَى الظِّهَارِ، إِذْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ إِلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَلْزَمُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: وَلَا بُدَّ إِمَّا أَنْ يَفْعَلَهُ حَرَامًا، وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ تَحِلَّةَ الْيَمِينِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمُحَرَّمِ مَفْرُوضًا أَوْ مِنْ ضَرُورَةِ الْمَفْرُوضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى التَّحِلَّةِ إِلَّا بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى فِعْلِهِ حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ، فَيَسْتَفِيدُ بِهَا الْحِلَّ، وَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَرَامٌ مُمْتَنِعٌ، هَذَا مَا قِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَبَعْدُ، فَلَهَا غَوْرٌ، وَفِيهَا دِقَّةٌ وَغُمُوضٌ، فَإِنَّ مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَحْلُوفِ بِهِ بِفِعْلِهِ، إِلَّا بِالْتِزَامِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا الْتَزَمَهَا جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَلَوْ عَزَمَ عَلَى تَرْكِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يُبِيحُ لَهُ الْإِقْدَامَ عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَيَأْذَنُ لَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَأْذَنُ لَهُ فِيهِ وَيُبِيحُهُ، إِذَا الْتَزَمَ مَا فَرَضَ اللَّهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ إِذْنُهُ لَهُ فِيهِ وَإِبَاحَتُهُ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُ بِالْحَلِفِ أَوِ التَّحْرِيمِ رُخْصَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَنِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِ، بِسَبَبِ الْتِزَامِهِ لِحُكْمِهِ الَّذِي فَرَضَ لَهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بَقِيَ الْمَنْعُ الَّذِي عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ إِصْرًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا رَفَعَ الْآصَارَ عَمَّنِ اتَّقَاهُ، وَالْتَزَمَ حُكْمَهُ، وَقَدْ كَانَتِ الْيَمِينُ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا يَتَحَتَّمُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ الْحِنْثُ، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَجَوَّزَ لَهَا الْحِنْثَ بِشَرْطِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا لَمْ يُكَفِّرْ لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ لَمْ يُوَسَّعْ لَهُ فِي الْحِنْثِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَحْرُمُ حَتَّى يُكَفِّرَ.
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مُفْرَدَاتِ أبي حنيفة، بَلْ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أحمد، يُوَضِّحُهُ: أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ وَالْحَلِفَ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مَنْعَانِ: مَنْعٌ مِنْ نَفْسِهِ لِفِعْلِهِ، وَمَنْعٌ مِنَ الشَّارِعِ لِلْحِنْثِ بِدُونِ الْكَفَّارَةِ، فَلَوْ لَمْ يُحَرِّمْهُ تَحْرِيمُهُ أَوْ يَمِينُهُ، لَمْ يَكُنْ لِمَنْعِهِ نَفْسَهُ، وَلَا لِمَنْعِ الشَّارِعِ لَهُ أَثَرٌ، بَلْ كَانَ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ فِي ذِمَّتِهِ بِهَذَا الْمَنْعِ صَدَقَةً، أَوْ عِتْقًا، أَوْ صَوْمًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ حِلُّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَا تَحْرِيمُهُ الْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ قَبْلَ الْمَنْعِ وَبَعْدَهُ عَلَى السَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، فَلَا يَكُونُ لِلْكَفَّارَةِ أَثَرٌ الْبَتَّةَ، لَا فِي الْمَنْعِ مِنْهُ، وَلَا فِي الْإِذْنِ، وَهَذَا لَا يَخْفَى فَسَادُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute