الرِّوَايَاتِ الْأَرْبَعِ عَنْهُ، وأبو عبيد: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ، وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ مالك: يَقُولُ إِذَا أَجْمَعَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ مَا يُجْمِعُ، أَكَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ طَاوُوسٍ إِذَا تَكَلَّمَ بِالظِّهَارِ لَزِمَهُ مِثْلُ الطَّلَاقِ؟
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَبْلَ الْوَطْءِ، هَلْ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؟ فَقَالَ مالك وأبو الخطاب: تَسْتَقِرُّ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ: لَا تَسْتَقِرُّ، وَعَنْ مالك رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَحْدَهُ، وَرِوَايَةُ " الْمُوَطَّأِ " خِلَافُ هَذَا كُلِّهِ، أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ مَعًا.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ، أَنَّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة وأحمد. وَقَدْ قَالَ أحمد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: ٣] قَالَ الْغَشَيَانُ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْشَى كَفَّرَ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ، بَلْ مَذْهَبُهُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ الْوَطْءُ، وَيَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَهُ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ.
وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْكَفَّارَةِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: ٣] فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ الْعَوْدِ وَقَبْلَ التَّمَاسِّ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَوْدَ غَيْرُ التَّمَاسِّ، وَأَنَّ مَا يَحْرُمُ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِالظِّهَارِ تَحْرِيمَهَا، وَالْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا، عَوْدٌ فِيمَا قَصَدَهُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ، فَإِذَا أَرَادَ اسْتِبَاحَتَهَا فَقَدْ رَجَعَ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمِ فَكَانَ عَائِدًا.
قَالَ: الَّذِينَ جَعَلُوهُ الْوَطْءَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْعَوْدَ فِعْلٌ ضِدُّ قَوْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَالْعَائِدُ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَيْهِ، وَلَهُ: هُوَ فَاعِلُهُ لَا مُرِيدُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: ٨] فَهَذَا فِعْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ نَفْسِهِ لَا إِرَادَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَرْبَابَ هَذَا الْقَوْلِ مَا أَلْزَمَهُمْ بِهِ أَصْحَابُ الْعَزْمِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْعَوْدَ يَتَقَدَّمُ التَّكْفِيرَ، وَالْوَطْءُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: ٣] أَيْ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: ٩٨] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: ٦] [الْمَائِدَةِ: ٦] وَنَظَائِرِهِ مِمَّا يُطْلَقُ الْفِعْلُ فِيهِ عَلَى إِرَادَتِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute