مَحْضُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ بَائِنٌ مِنْ نِكَاحٍ، فَلَزِمَهَا الْإِحْدَادُ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْعِدَّةِ، وَاخْتَلَفَا فِي سَبَبِهَا، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تُحَرِّمُ النِّكَاحَ فَحَرُمَتْ دَوَاعِيهِ.
قَالُوا: وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِحْدَادَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ إِظْهَارَ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ وَالْحُلِيِّ مِمَّا يَدْعُو الْمَرْأَةَ إِلَى الرِّجَالِ وَيَدْعُو الرِّجَالُ إِلَيْهَا: فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَكْذِبَ فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا اسْتِعْجَالًا لِذَلِكَ، فَمُنِعَتْ مِنْ دَوَاعِي ذَلِكَ وَسَدَّتْ إِلَيْهِ الذَّرِيعَةَ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْكَذِبَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ يَتَعَذَّرُ غَالِبًا بِظُهُورِ مَوْتِ الزَّوْجِ وَكَوْنِ الْعِدَّةِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً بِخِلَافِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهَا بِالْأَقْرَاءِ، وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ لَهَا أَوْلَى.
قِيلَ: قَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَنْ حَرَّمَ زِينَتَهُ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ مِنَ الزِّينَةِ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِينَةَ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ، وَأَبَاحَ رَسُولُهُ الْإِحْدَادَ بِتَرْكِهَا عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ، فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ غَيْرِ مَا حَرَّمَهُ، بَلْ هُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَلَيْسَ الْإِحْدَادُ مِنْ لَوَازِمِ الْعِدَّةِ وَلَا تَوَابِعِهَا.
وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَلَا الْمَزْنِيِّ بِهَا، وَلَا الْمُسْتَبْرَأَةِ، وَلَا الرَّجْعِيَّةِ اتِّفَاقًا، وَهَذَا الْقِيَاسُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لِمَا بَيْنَ الْعِدَّتَيْنِ مِنَ الْقُرُوءِ قَدَرًا أَوْ سَبَبًا وَحُكْمًا، فَإِلْحَاقُ عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ بِالْأَقْرَاءِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِ عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِحْدَادِ عَلَى الزَّوْجِ الْمَيِّتِ مُجَرَّدَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ طَلَبِ الِاسْتِعْجَالِ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ فِيهِ لَمْ تَكُنْ لِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَلِهَذَا تَجِبُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَعْظِيمِ هَذَا الْعَقْدِ وَإِظْهَارِ خَطَرِهِ وَشَرَفِهِ وَأَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ بِمَكَانٍ، فَجُعِلَتِ الْعِدَّةُ حَرِيمًا لَهُ، وَجُعِلَ الْإِحْدَادُ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْمَقْصُودِ وَتَأَكُّدِهِ وَمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ حَتَّى جُعِلَتِ الزَّوْجَةُ أَوْلَى بِفِعْلِهِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ أَبِيهَا وَابْنِهَا وَأَخِيهَا وَسَائِرِ أَقَارِبِهَا.
وَهَذَا مِنْ تَعْظِيمِ هَذَا الْعَقْدِ وَتَشْرِيفِهِ وَتَأَكُّدِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ مِنْ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَلِهَذَا شُرِعَ فِي ابْتِدَائِهِ إِعْلَانُهُ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ لِتَحَقُّقِ الْمُضَادَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَشَرَعَ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute