فَأَشْكَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَظَنُّوا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ كَسْبِهِ مَنْسُوخٌ بِإِعْطَائِهِ أَجْرَهُ، وَمِمَّنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ الطَّحَاوِيُّ، فَقَالَ فِي احْتِجَاجِهِ لِلْكُوفِيِّينَ فِي إِبَاحَةِ بَيْعِ الْكِلَابِ، وَأَكْلِ أَثْمَانِهَا: لِمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: ( «مَا لِي وَلِلْكِلَابِ» ) ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ، وَكَلْبِ الْغَنَمِ، وَكَانَ بَيْعُ الْكِلَابِ إِذْ ذَاكَ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ حَرَامًا، وَكَانَ قَاتِلُهُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَأَبَاحَ الِاصْطِيَادَ بِهِ، فَصَارَ كَسَائِرِ الْجَوَارِحِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ، قَالَ: وَمِثْلُ ذَلِكَ نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَقَالَ: ( «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» ) ثُمَّ أَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ نَاسِخًا لِمَنْعِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَنَهْيِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَسْهَلُ مَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّهَا دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، فَلَا تُقْبَلُ، كَيْفَ وَفِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ مَا يُبْطِلُهَا؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: ( «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟» ) ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ.
(وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ إِلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ، أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ مَاشِيَةٍ» ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ» )
وَالْحَدِيثَانِ فِي " الصَّحِيحِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَقَعَتْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، فَالْكَلْبُ الَّذِي أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اقْتِنَائِهِ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ ثَمَنَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَبِيثٌ دُونَ الْكَلْبِ الَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِقَتْلِهِ غَيْرُ مُسْتَبْقًى حَتَّى تَحْتَاجَ الْأُمَّةُ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ ثَمَنِهِ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اقْتِنَائِهِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ ثَمَنِهِ أَوْلَى مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى بَيَانِ مَا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِبَيْعِهِ، بَلْ قَدْ أُمِرُوا بِقَتْلِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute