وَإِنْ كَانَ أبو حنيفة شَرَطَ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الْعَقْدِ فِي الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَهَذَا هُوَ السَّلَمُ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: مَعْدُومٌ تَبَعٌ لِلْمَوْجُودِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَهُوَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَنَوْعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْعُ الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِ ثَمَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ ذَلِكَ الصِّنْفِ الَّذِي بَدَا صَلَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ بَقِيَّةُ أَجْزَاءِ الثِّمَارِ مَعْدُومَةً وَقْتَ الْعَقْدِ، وَلَكِنْ جَازَ بَيْعُهَا تَبَعًا لِلْمَوْجُودِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْدُومُ مُتَّصِلًا بِالْمَوْجُودِ، وَقَدْ يَكُونُ أَعْيَانًا أُخَرَ مُنْفَصِلَةً عَنِ الْوُجُودِ لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ.
وَالنَّوْعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَبَيْعِ الْمَقَاثِئِ وَالْمَبَاطِخِ إِذَا طَابَتْ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا جُمْلَةً، وَيَأْخُذُهَا الْمُشْتَرِي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَيَجْرِي مَجْرَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ الْأُمَّةِ، وَلَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ، وَلَا أَثَرٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ مالك وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أحمد، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
وَالَّذِينَ قَالُوا: لَا يُبَاعُ إِلَّا لُقْطَةً لُقْطَةً لَا يَنْضَبِطُ قَوْلُهُمْ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا وَيَتَعَذَّرُ الْعَمَلُ بِهِ غَالِبًا، وَإِنْ أَمْكَنَ فَفِي غَايَةِ الْعُسْرِ، وَيُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُرِيدُ أَخْذَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ صِغَارُهُ أَطْيَبَ مِنْ كِبَارِهِ، وَالْبَائِعُ لَا يُؤْثِرُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عُرْفٌ مُنْضَبِطٌ، وَقَدْ تَكُونُ الْمَقْثَأَةُ كَثِيرَةً، فَلَا يَسْتَوْعِبُ الْمُشْتَرِي اللُّقْطَةَ الظَّاهِرَةَ حَتَّى يُحْدِثَ فِيهَا لُقْطَةً أُخْرَى، وَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ، وَيَتَعَذَّرُ تَمْيِيزُهُ، وَيَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى صَاحِبِ الْمَقْثَأَةِ أَنْ يُحْضِرَ لَهَا كُلَّ وَقْتٍ مَنْ يَشْتَرِي مَا تَجَدَّدَ فِيهَا، وَيُفْرِدُهُ بِعَقْدٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَأْتِي بِهِ، فَهَذَا غَيْرُ مَقْدُورٍ وَلَا مَشْرُوعٍ، وَلَوْ أُلْزِمَ النَّاسُ بِهِ لَفَسَدَتْ أَمْوَالُهُمْ وَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ فِي الْمَقَاثِئِ بِمَنْزِلَةِ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ، وَتَلَاحُقُ أَجْزَائِهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute