التَّارِيخِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أم حبيبة كَانَتْ تَحْتَ عبد الله بن جحش، وَوَلَدَتْ لَهُ، وَهَاجَرَ بِهَا وَهُمَا مُسْلِمَانِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ تَنَصَّرَ وَثَبَتَتْ أم حبيبة عَلَى إِسْلَامِهَا فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ يَخْطُبُهَا عَلَيْهِ فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ صَدَاقًا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَجَاءَ أبو سفيان فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَثَنَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَا يَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ أبا سفيان ومعاوية أَسْلَمَا فِي فَتْحِ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ.
وَأَيْضًا فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَتُؤَمِّرُنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: نَعَمْ. وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَ أبا سفيان الْبَتَّةَ.
وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَتَعَدَّدَتْ طُرُقُهُمْ فِي وَجْهِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْفَتْحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: وَلَا يُرَدُّ هَذَا بِنَقْلِ الْمُؤَرِّخِينَ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِالسِّيرَةِ وَتَوَارِيخِ مَا قَدْ كَانَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ سَأَلَهُ أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ الْعَقْدَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ لَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَلِيقُ بِعَقْلِ أبي سفيان، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ البيهقي والمنذري: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أبي سفيان وَقَعَتْ فِي بَعْضِ خُرَجَاتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ كَافِرٌ حِينَ سَمِعَ نَعْيَ زَوْجِ أم حبيبة بِالْحَبَشَةِ، فَلَمَّا وَرَدَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي دَفْعِهِ مِنْ سُؤَالِهِ أَنْ يُؤَمِّرَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْكُفَّارَ، وَأَنْ يَتَّخِذَ ابْنَهُ كَاتِبًا، قَالُوا: لَعَلَّ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَقَعَتَا مِنْهُ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَجَمَعَ الرَّاوِي ذَلِكَ كُلَّهُ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَالتَّعَسُّفُ، وَالتَّكَلُّفُ الشَّدِيدُ الَّذِي فِي هَذَا الْكَلَامِ يُغْنِي عَنْ رَدِّهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لِلْحَدِيثِ مَحْمَلٌ آخَرُ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَرْضَى أَنْ تَكُونَ زَوْجَتَكَ الْآنَ، فَإِنِّي قَبْلُ لَمْ أَكُنْ رَاضِيًا، وَالْآنَ فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُ، فَأَسْأَلُكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute