للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا عَجْزٌ مَحْضٌ، فَإِنْ كَانَ مَشُوبًا بِنَوْعٍ مِنَ التَّوَكُّلِ، فَهُوَ تَوَكُّلُ عَجْزٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا، وَلَا يَجْعَلَ عَجْزَهُ تَوَكُّلًا، بَلْ يَجْعَلُ تَوَكُّلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا الَّتِي لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إِلَّا بِهَا كُلِّهَا.

وَمِنْ هَاهُنَا غَلِطَ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ: إِحْدَاهُمَا: زَعَمَتْ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَحْدَهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ كَافٍ فِي حُصُولِ الْمُرَادِ، فَعُطِّلَتْ لَهُ الْأَسْبَابُ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ الْمُوصِلَةُ إِلَى مُسَبِّبَاتِهَا، فَوَقَعُوا فِي نَوْعِ تَفْرِيطٍ وَعَجْزٍ، بِحَسَبِ مَا عَطَّلُوا مِنَ الْأَسْبَابِ، وَضَعُفَ تَوَكُّلُهُمْ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا قُوَّتَهُ بِانْفِرَادِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ، فَجَمَعُوا الْهَمَّ كُلَّهُ، وَصَيَّرُوهُ هَمًّا وَاحِدًا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَكُلَّمَا قَوِيَ جَانِبُ التَّوَكُّلِ بِإِفْرَادِهِ أَضْعَفَهُ التَّفْرِيطُ فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّ التَّوَكُّلَ مَحَلُّهُ الْأَسْبَابُ، وَكَمَالُهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِيهَا، وَهَذَا كَتَوَكُّلِ الْحَرَّاثِ الَّذِي شَقَّ الْأَرْضَ، وَأَلْقَى فِيهَا الْبِذْرَ، فَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي زَرْعِهِ وَإِنْبَاتِهِ، فَهَذَا قَدْ أَعْطَى التَّوَكُّلَ حَقَّهُ، وَلَمْ يَضْعُفْ تَوَكُّلُهُ بِتَعْطِيلِ الْأَرْضِ، وَتَخْلِيَتِهَا بُورًا، وَكَذَلِكَ تَوَكُّلُ الْمُسَافِرِ فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ مَعَ جِدِّهِ فِي السَّيْرِ، وَتَوَكُّلُ الْأَكْيَاسِ مِنَ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهِ، مَعَ اجْتِهَادِهِمْ فِي طَاعَتِهِ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَيَكُونُ اللَّهُ حَسْبَ مَنْ قَامَ بِهِ.

وَأَمَّا تَوَكُّلُ الْعَجْزِ وَالتَّفْرِيطِ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَلَيْسَ اللَّهُ حَسْبَ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يَكُونُ حَسْبَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ إِذَا اتَّقَاهُ، وَتَقْوَاهُ فِعْلُ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا، لَا إِضَاعَتُهَا.

وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: الَّتِي قَامَتْ بِالْأَسْبَابِ، وَرَأَتِ ارْتِبَاطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، وَأَعْرَضَتْ عَنْ جَانِبِ التَّوَكُّلِ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ وَإِنْ نَالَتْ بِمَا فَعَلَتْهُ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا نَالَتْهُ، فَلَيْسَ لَهَا قُوَّةُ أَصْحَابِ التَّوَكُّلِ، وَلَا عَوْنُ اللَّهِ لَهُمْ وَكِفَايَتُهُ إِيَّاهُمْ وَدِفَاعُهُ عَنْهُمْ، بَلْ هِيَ مَخْذُولَةٌ عَاجِزَةٌ، بِحَسَبِ مَا فَاتَهَا مِنَ التَّوَكُّلِ.

فَالْقُوَّةُ كُلُّ الْقُوَّةِ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ، فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، فَالْقُوَّةُ مَضْمُونَةٌ لِلْمُتَوَكِّلِ، وَالْكِفَايَةُ وَالْحَسْبُ وَالدَّفْعُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَنْقُصُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَنْقُصُ مِنَ التَّقْوَى وَالتَّوَكُّلِ، وَإِلَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>