للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأين هذا من احتجاج أعداء الله بمشيئته وقدره على إبطال أمره ونهيه؟

وعُبَّاد هؤلاء الكفرة يشهدون أفعالهم كلها طاعات؛ لموافقتها المشيئة السابقة، ولو أغضبهم غيرُهم وقصَّر في حقوقهم لم يشهدوا فعله طاعة، مع أنه وافق فيه المشيئة، فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي إلا مَن هو مِن أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه.

وتأمّل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه احتجاجَهم بمشيئته وقدره (١) على إبطال ما أمرهم به رسوله، وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: ٤٩]، فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه، وبيان ما ينفعهم ويضرهم، ويمكّنهم من الإيمان بمعرفة أدلته وبراهينه، وإعطائهم الأسماع والأبصار والعقول، فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك، واضمحلّت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه.

ثم قرر تمام الحجة بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، فإن هذا يتضمن أنه المنفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه، وأنه لا ربّ غيره، ولا إله سواه، فكيف يعبدون معه إلهًا غيره؟!

فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم، وأن الأمر كله لله، وأن كل شيء ما خلا الله باطل، فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد؛ فَجَعَلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك، فكانت حجة الله هي البالغة، وحجتهم هي الداحضة، وبالله التوفيق.


(١) "م": "وقدرته".