للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: وهو نظير قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: ٢٨].

وقال آخرون: لما جاءتهم رسلهم بالآيات التي اقترحوها وطلبوها، ما كانوا ليؤمنوا بعد رؤيتها ومعاينتها بما كذبوا به من قبل رؤيتها، فمنعهم تكذيبهم السابق بالحق لما عرفوه من الإيمان به بعد ذلك، وهذه عقوبة مَن ردَّ الحق إذا عُرِض عليه (١) فلم يقبله، فإنه يُصْرَف عنه، ويُحال بينه وبينه، ويُقْلب قلبه عنه، فهذا إضلال العقوبة، وهو من عدل الربِّ تعالى في عبده.

وأما الإضلال السابق الذي ضلّ به عن قبوله أوّلًا والاهتداء به: فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به، وأن محله غير قابل له، فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه، كما هو أعلم حيث يجعل رسالاته، فهو أعلم حيث يجعلها أصلًا وميراثًا.

وكما أنه ليس كل محل أهلًا لتحمل الرسالة عنه، وأدائها إلى الخلق؛ فليس كل محل أهلًا لقبولها والتصديق بها، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: ٥٣]، أي: ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض، فابتلى الرؤساء والسادة بالأتباع والموالي والضعفاء، فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى المولى والضعيف قد آمن، حمي أنفه، وأنفَ أن يسلم، وقال: أهذا يمُنّ الله عليه بالهدى والسعادة دوني؟! قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، وهم الذين يعرفون النعمة وقدرها، ويشكرون الله عليها بالاعتراف والذل والخضوع والعبودية، فلو كانت


(١) تحتمل في "م": "أو اعترض عليه"، والمثبت من "د" أشبه بالسياق.