للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قالت القدرية: لما أعرضوا عن التدبّر، ولم يصغوا إلى التذكّر (١)، وكان ذلك مقارنًا لإيراد الله سبحانه حجته عليهم؛ أضيفت أفعالهم إلى الله؛ لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم.

قال أهل السنة: هذا من أمحل المحال أن يضيف الربُّ إلى نفسه أمرًا لا يُضاف إليه البتَّة؛ لمقارنته ما هو من فعله، ومن المعلوم أن الضدّ يقارن الضدّ، فالشر يقارن الخير، والحق يقارن الباطل، والصدق يقارن الكذب، وهل يُقال: إن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبه من الإيمان والطاعة، وإنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملائكة؟!

فإن قيل: قد يُنسب الشيء إلى الشيء لمقارنته له وإن لم يكن له فيه تأثير، كقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: ١٢٤ - ١٢٥]، ومعلوم أن السورة لم تُحْدِث لهم زيادة الرِّجْس، بل قارن زيادة رِجْسهم لنزولها فنُسِب إليها.

قيل: لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما، وهما: إحداث السورة الرِّجْس، والثاني: مقارنته لنزولها، بل ههنا أمر ثالث، وهو أن السورة لما أُنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها، والتصديق والإذعان لأوامرها ونواهيها، والعمل بما فيها، فوطّن المؤمنون أنفسهم على ذلك، فازدادوا إيمانًا بسببها، فنُسِبت زيادة الإيمان إليها؛ إذ هي السبب في زيادته، وكذّب بها الكافرون وجحدوها، وكذبوا من جاء بها، ووطّنوا أنفسهم على مخالفة ما


(١) "د": "الذكر".