للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا، واستقباح هذا، بل مشاهدة الحُكْم تزيد البصير استحسانًا للحسن، واستقباحًا للقبيح، وكلما ازدادت معرفته بالله وأسمائه وصفاته وأمره قوي استحسانه واستقباحه؛ فإنه يوافق في ذلك ربه ورسله، ومقتضى الأسماء الحسنى والصفات العُلى.

وقد كان حال شيخ الإسلام في ذلك موافقًا للأمر، وغضبه لله ولحدوده ومحارمه ومقاماته في ذلك شهيرة عند الخاصة والعامة، وكلامه المتقدم بيِّنٌ في رسوخ قدمه في استقباح ما قبَّحه الله، واستحسان ما حسَّنه، وهو كالمُحْكَم فيه؛ وهذا متشابه، فيُرد إلى مُحْكَم كلامه (١).

والذي يليق به ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي - رحمه الله - في شرحه، فذكر قاعدة في الفناء والاصطلام، فقال: "الفناء: عبارة عن اصطلام العبد لغلبة وجود الحق، وقوة العلم به في العبد، فيزيد بذلك يقينه به، ومعرفته به، وبصفاته سبحانه، فيذهل بذلك كما يذهل الإنسان في أمر عظيم دهمه، فإنه ربما غاب عن شعوره بما دهمه من الأمور المهمة.

مثاله: رجل وقف بين يدي سلطان عظيم قاهر من ملوك الأرض، فأذهله عظمة ما يلاحظه من هيبته وسلطانه عن كثير مما يشعر به. وهذا تقريب، والأمر فوق ذلك.

فكيف بمن أشهده الله عز وجل فَرْدانيته، حيث كان ولا شيء معه، فرأى الأشياء مواتًا لا قوام لها إلا بقدرته، فشهدها خيالًا كالهباء بالنسبة إلى وجود الحق تعالى.


(١) انظر: "مدارج السالكين" (١/ ٦٣٢ - ٦٤٢)، "مجموع الفتاوى" (٨/ ٢٣٠، ٣٣٩) (١٤/ ٣٥٤)، "جامع الرسائل" (٢/ ١١٠).