للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مشيئة محضة رجَّحتْ مِثْلًا على مِثْل بغير مرجِّح، وأي رحمة تكون في هذه الشريعة، وكيف يكون المبعوث بها رحمة مهداة للعالمين لو كان الأمر كما يقول النفاة، وهل يكون الأمر والنهي إلا عقوبة وكُلْفة وعبثًا؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

ولو ذهبنا نذكر ما يطّلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع، مع قصور أذهاننا، ونقص علومنا ومعارفنا وتلاشيها، بل وتلاشي علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس، وهذا تقريب، وإلا فالأمر فوق ذلك.

وهل إبطال الحِكَم والمناسبات والأوصاف التي شُرِعت الأحكام لأجلها إلا إبطال للشرع جملة؟!

وهل يمكن فقيهًا على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل، وقصْد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟

وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات؛ فإن العقلاء لا يمكنهم إنكار الأسباب والحِكَم والمصالح والعلل الغائية، فإذا رأوا أن هذا لا يمكن القول به مع موافقة الشرائع، ولا يمكنهم دفعه عن نفوسهم؛ خلّوا الشرائع وراء ظهورهم، وأساؤوا بها الظن، وقالوا: لا يمكننا الجمع بينها وبين عقولنا، ولا سبيل لنا إلى الخروج عن عقولنا، ورأوا أن القول بالفاعل المختار لا يمكن إلا مع نفي الأسباب والحِكَم والقُوى والطبائع، ولا سبيل إلى نفيها، فنفوا الفاعل المختار، وأولئك لم يمكنهم القول بنفي الفاعل المختار، ورأوا أنهم لا يمكنهم إثباته مع إثبات الأسباب والحِكَم والقُوى والعلل فنفوها، وبين الطائفتين بُعد المشرقين.