للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فتأمل ظهور حكمته سبحانه في أصحاب هذه القلوب، وهم كل الأمة، فأخبر أن الذين أوتوا العلم علموا أنه الحق من ربهم، كما أخبر أنهم في المتشابه يقولون (١): {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: ٧]، وكلا الموضعين موضع شبهة، فكان حظهم منه الإيمان، وحظ أرباب القلوب (٢) المنحرفة عن الصحة الافتتان.

ولهذا جعل سبحانه إحكام آياته في مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء الآيات المحكمات في مقابلة المتشابهات، فالإحكام ههنا بمنزلة إنزال المحكمات هناك، ونسخ ما يلقي الشيطان ههنا في مقابلة رد المتشابه إلى المحكم هناك، والنسخ ههنا رفع ما ألقاه الشيطان، لا رفع ما شرعه الربّ سبحانه.

وللنسخ معنى آخر، وهو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يُرِدْه، ولا دلّ اللفظ عليه، وإن أوهمه، كما أطلق الصحابة - رضي الله عنهم - النسخ على قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِر لِّمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّب مَّن يَشَاءُ} (٣) [البقرة: ٢٨٤]، قالوا: نسخها قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية [البقرة: ٢٨٦]، فهذا نسخ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت؛ فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة ولا في الدنيا أيضًا، ولهذا عمهم بالمحاسبة، ثم أخبر أنه بعدها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ففَهْم المؤاخذة التي هي المعاقبة (٤) من الآية تحميل لها


(١) «د»: «أنهم يقولون في المتشابه».
(٢) «د»: «العلوم».
(٣) {وَيُعَذِّب مَّن يَشَاءُ} من «م».
(٤) «د» «م»: «العاقبة»، والصواب من «ج».