للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القسم الثالث: قوم لم يستجيبوا للرسل، ولا انقادوا لهم، بل استمروا على الخروج عن الفطرة، ولم يرجعوا إليها، واستحكم فسادها فيهم أتم استحكام، بحيث لا يُرْجَى لهم صلاح، فهؤلاء لا تفي محنُ الدنيا ومُصَابُ الموت وما بعده وأهوالُ القيامة بزوال أوساخهم وأدرانهم، ولا يليق بحكمة العليم الحكيم أن يجاور بهم الطيبين في دارهم، ولم يُخْلَقوا للفناء، فهؤلاء أهل دار الابتلاء والامتحان، باقون فيها ببقاء ما معهم من درن الكفر والشرك، والنار إنما أُوْقِدت عليهم بأعمالهم الخبيثة، فعذابهم بنفس أعمالهم، أُنشِئ لهم منها صورٌ من العذاب تناسبها وتشاكلها (١)، فالعذاب باقٍ عليهم ما بقيت حقائق تلك الأعمال وما تولد منها، فما دامت موجِبات العذاب باقية فالعذاب باقٍ.

يبقى أن يقال: فهل ذهب أثر الفطرة الأولى بالكلية، بحيث صارت كأن لم تكن، وبطلت بالكلية، وانتقل الأمر إلى العارض المفسد لها، وعلى هذا فلا سبيل إلى خلاصهم من العذاب؛ إذ هو أثر ذلك الفساد الذي أزال الفطرة؟

أو يقال: الفطرة لم تذهب بالكلية، وإنما استحكم مرضها وفسادها وأصلها باقٍ، كما يستحكم مرض البدن وفساده والحياة قائمة به، لكنها حياة لا تنفع، فإذا قُدّر دواءٌ كريه صعب التناول لا سبيل إلى الصحة إلا بتكرّر تناوله مرارًا كثيرة العدد جدًّا تزيل ذلك المرض العارض، فيظهر أثر الفطرة الأولى، فلا يحتاج بعده إلى الدواء؟


(١) «م»: «صورتها من العذاب تشبهها وتشاكلها».