للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أكثر الحيوان أعداء، وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه، وهو العزيز الحكيم.

فصل (١)

وهذه النمل من أهدى الحيوانات، وهدايتها من أعجب شيء؛ فإنَّ النملة الصغيرة تخرجُ من بيتها وتطلب قوتَها وإن بَعُدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق مُعْوَجّة بعيدة، ذات صعود وهبوط، في غاية من التوعّر حتى تصل إلى بيوتها، فتخزّن فيها أقواتها في وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فَلْقه باثنتين فلقته بأربعة، فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يومًا ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها، ولا تتغذى منها نملة على ما جمعه غيرها.

ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: {يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: ١٨]، فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما بيَّنه من اسم الجنس إرادة للعموم، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول، وهو خشية أن يصيبهم مَعَرّة الجيش (٢)، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي


(١) سيقتبس المؤلف في هذا الفصل كثيرًا من "الحيوان" للجاحظ (٤/ ٥ - ٣٦).
(٢) المعرّة: الأمر القبيح المكروه والأذى، "النهاية في الغريب" (عرر) (٣/ ٢٠٥).