للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها قوام معايشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر على ذلك سائر الحيوانات، فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم، فإنه سبحانه ربّ الدنيا والآخرة، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسَّر كُلًّا من خَلْقه لما خَلَقَه له في الدنيا والآخرة، فهو مُهيَّأ له مُيسَّر له.

فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشّد اجتهادًا في فعلها والقيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه.

وقد فَقِه هذا كل الفقه مَن قال: "ما كنت أشد اجتهادًا مني الآن"، فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مونقة، وبساتين معجبة، ومساكن طيبة، ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب، كان حرصه على سلوكها، واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه.

ولهذا قال أبو عثمان النهدي لسلمان: "لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحًا مني بآخره"، وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة، وهيّأه ويسّره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها، فإنها سبقت له من الله قبل الوسيلة منه، وعلمها الله وشاءها وكتبها وقدرها، وهيأ له أسبابها؛ ليوصله إليها، فالأمر كله من فضله وجوده السابق، فسبق له من الله سابقة السعادة ووسيلتها وغايتها، فالمؤمن أشد فرحًا بذلك من كون أمره مجعولًا إليه، كما قال بعض السلف: "والله ما أحب أن يجعل أمري إليّ، إنه إذا كان بيد الله خيرًا (١) من أن يكون بيدي".


(١) هكذا في "د" "م": "كان بيد الله خيرًا" بنصب "خير"، والأشبه الرفع؛ اسم لـ "كان".