وكأن هذا القول أظهر في الآية، والسياق يدل عليه، فإنه قال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}، وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأجل والتقدير الأول، وأنها لم تُخلق سدى، بل هي معبّدة مذلّلة، قد قَدّر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه، ثم ذَكَر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها، فقال:{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} فذكر مبدأها ونهايتها، وأدخل بين هاتين الحالتين قوله:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، أي: كلها قد كُتِبت وقُدِّرت وأُحْصِيت قبل أن توجد، فلا يناسب هذا ذكر كتاب الأمر والنهي، وإنما يناسب ذكر الكتاب الأول.
ولمن نصر القول الأول أن يجيب عن هذا بأن في ذكر القرآن ههنا الإخبار عن تضمنه لذكر ذلك والإخبار به، فلم نفرط فيه من شيء، بل أخبرناكم بكل ما كان، وما هو كائن إجمالًا وتفصيلًا.
ويرجحه أمر آخر، وهو أن هذا ذُكِر عقيب قوله:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[الأنعام: ٣٧]، فنبههم على أعظم الآيات وأدلها على صدق رسوله، وهو الكتاب الذي يتضمن تبيان كل شيء، ولم يفرط فيه من شيء، ثم نبههم بأنهم أمة من جملة الأمم التي في السماوات والأرض، وهذا يتضمن التعريف بوجود الخالق سبحانه، وكمال قدرته وعلمه، وسعة ملكه، وكثرة جنوده، والأمم التي لا يحصيها غيره، وهذا يتضمن أنه لا إله غيره، ولا ربَّ سواه، وأنه ربُّ العالمين، فهذا دليل على وحدانيته وصفات كماله من جهة خلقه وقدره. وإنزال الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء دليل من جهة أمره وكلامه، فهذا