إذا فعلوا مقدورهم من طاعته لم يُكلَّفوا بغيره، فكيف يُعذَّبون على ترك ما لا قدرة لهم عليه، وهل ذلك إلا بمنزلة تعذيبهم على كونهم لم يَخْلقوا السماوات والأرض، ونحو ذلك مما لا يدخل تحت مقدورهم؟!
قالوا: فلا وجه لهذا الحديث إلا ردّه، أو تأويله وحمله على معنى يصح، وهو أنه لو أراد تعذيبهم لجعلهم أمة واحدة على الكفر، فلو عذبهم في هذه الحال لكان غير ظالم لهم، وهو لم يقل: لو عذّبهم مع كونهم (١) مطيعين له، عابدين له؛ لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ثم أخبر أنه لو عمّهم بالرحمة لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم، ثم أخبر أنه لا يُقبل من العبد عملٌ حتى يؤمن بالقدر، والقدر هو علم الله بالكائنات وحكمه فيها.
ووقفت طائفة أخرى في وادي الحيرة بين القدر والأمر، والثواب والعقاب، فتارة يغلب عليهم شهودُ القدر فيغيبون به عن الأمر، وتارة يغلب عليهم شهودُ الأمر فيغيبون به عن القدر، وتارة يبقون في حيرة وعمى.
وهذا كله إنما سببه الأصول الفاسدة، والقواعد الباطلة التي بنوا عليها، ولو جمعوا بين المُلْك والحمد، والربوبية والإلهية، والحكمة والقدرة، وأثبتوا له الكمال المطلق، ووصفوه بالقدرة التامة الشاملة، والمشيئة العامة النافذة التي لا يوجد كائن إلا بعد وجودها، والحكمة البالغة التي ظهرت في كل موجود= لعلموا حقيقة الأمر، وزالت عنهم الحيرة، ودخلوا إلى الله سبحانه من باب أوسع من السماوات السبع، وعرفوا أنه لا يليق بكماله المقدس إلا ما أخبر به عن نفسه على ألسنة رسله، وأن ما خالفه ظنون كاذبة،